أثارت الثورات الشعبية العربية من جديد جدلا حول قضايا قديمة لم يكن من السهل بحثها بوضوح وجرأة في المرحلة الاستبدادية، إذ أن لها علاقة مباشرة بالسلطة السياسية، وقد سعت جاهدة، كما هو معروف، إلى التعتيم على كل القضايا الفكرية، بل سخرت بعض الأقلام لتلميع صورتها في الداخل والخارج، وتقديمها، وكأنها راعية للثقافة والفكر، وليس للظلم والفساد !! من أبرز هذه القضايا علاقة المثقف بالسلطة، وأذكر هنا أنني نشرت منذ فترة دراسة مطولة بعنوان «المثقف والسلطة في التراث العربي الإسلامي» بدأتها بموقف القراء في الفتنة الكبرى، وقد كانوا يمثلون النخبة المثقفة للدين الجديد يومئذ، حتى المرحلة المعاصرة، مرحلة نظام الأحزاب الشمولية، وكانت خلاصة البحث أن هذه العلاقة كانت في جل الحالات متوترة، وانشطرت النخبة العربية بالأمس واليوم إلى شطرين: فقهاء البلاط، و فقهاء المسجد حسب التعبير القديم، فقهاء البلاط هم الذين نظروا إلى الإمامة والحكم الوراثي كما نقرأ ذلك على سبيل المثال في «الأحكام السلطانية» للماوردي، وفقهاء المسجد هم الذين عارضوا السلطة الاستبدادية، ورفضوا الحكم الوراثي مطالبين بأن يختار المسلمون الأفضل بينهم ليسير شؤونهم. وعرف أنصار هذا التيار نتيجة مواقفهم النفي والتعذيب والصلب، وأكتفي هنا بذكر قصة سعيد بن المسيب، وهو تابعي من كبار علماء الإسلام فقد طلب منه والي المدينة وهو ابن عمه أن يبايع للوليد و لسليمان ابني عبد الملك بن مروان ليرثا الحكم بعد أبيهما فرفض فجرد من ثيابه و ألبس ثيابا من شعر، وجلد مائة سوط و حلق رأسه ولحيته، و أوقف في السوق يتفرج عليه الناس. هل كان سعيد بن المسيب يمثل خطرا على الحكم الأموي، وهو في أوج قوته؟ أبدا ولكن كما قال عبد الملك بن مروان لواليه على المدينة: انتقم منه حتى لا يتجرأ الناس علينا فقد قدم مثالا للترهيب، إنه من المعروف في تاريخ النظم السلطوية شرقا وغربا أنها لا تقنع بشبه الإجماع، بل لا بد من الإجماع الكامل وإن كان صوريا مزيفا. ٭ ٭ ٭ وعندما نعود اليوم إلى موقف النخبة المثقفة تجاه الثورات العربية نلمس نفس الظاهرة تقريبا، و أعني انشطارها إلى شطرين، فهنالك فئة انضمت إلى الثورات الشبابية، محاولة عقلنتها و التنظير لها، و فئة أخرى صنفت بالأسماء ضمن «قائمة العار» و من الغريب أن نجد ضمن هذه القائمة أسماء بارزة من المثقفين العرب، فقد أصيب الناس بالدهشة لما قرأوا أن مثقفا متألقا من طينة جابر عصفور يقبل الوزارة والرصاص يحصد أرواح الشباب المصري في ميدان التحرير، أما من عرفه عن كثب، و أنا منهم، فقد حزنوا حزنا شديدا، ولما استقال علل استقالته «بأسباب صحية»، وليس احتجاجا على المجازر التي ارتكبها النظام البوليسي ضد شعبه !! وها نحن نقرأ اليوم أسماء معروفة ضمن «قائمة العار» في سوريا، و ليبيا، واليمن، أما الثورة العربية الرائدة فقد كان أبناؤها أكثر تسامحا فلم نسمع أنهم أعلنوا للرأي العام التونسي «قائمة العار» تضم أسماء أولئك الذين صفقوا طويلا، وسخروا أقلامهم، و إبداعهم لخدمة نظام غرق سدنته حتى «شوشة الرأس» في مستنقع الاستبداد و الفساد، ومن بينهم من كان رافعا لواء الإسلام، والإسلام منهم براء! ٭ ٭ ٭ إن التسامح المشار إليه قبل قليل لا يعني أن «قائمة العار» لم يسجلها تاريخ النخبة المثقفة وبخاصة في مرحلة سيطرة ظاهرة المافيا على الدولة و الوطن، فقد بلغت الوقاحة ببعضهم أن طالبوا أصحاب الأقلام بالدفاع عن النظام و قد مرت ثلاثة أسابيع على سقوط الشهداء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب !! ٭ ٭ ٭ إنني حريص في نهاية هذا النص على الإشارة إلى أن علاقة المثقف بالسلطة تمثل إشكالية معقدة عرفتها كل البلدان، وهي مرتبطة بالمرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع من جهة، وبطبيعة النظام السياسي من جهة أخرى، فمن المعروف أن النخبة المثقفة مثلت دعامة صلبة من دعائم الدولة الوطنية غداة الاستقلال، وساندت النظم السياسية ذات البعد القومي في مواجهة مخططات الاستعمار الجديد من جهة، والسياسة التوسعية الإسرائيلية من جهة ثانية. هي نظم وطنية حاولت دعم الاستقلال الوطني و بناء الدولة الحديثة، فالمثقف في هذه الحالة يجد تبريرا لمساندتها رغم ما عرفت به من نقائص، وفي مقدمتها غياب الحريات العامة، أما المثقفون الذين ساندوا بالأمس النظامين البائدين: التونسي والمصري، ويساندون اليوم الأنظمة القائمة في كل من ليبيا، وسوريا واليمن، فلا يتجرؤون على القول إن مساندتهم هي في مصلحة الدولة، إذ أنهم في خدمة سلطة قامعة، وحامية لمصالح مافيوزية، هي سلطة لا علاقة لها بمفهوم مصلحة الوطن، ومما يلفت النظر أن السلطة في الأقطار العربية المعنية، هي سلطة أسرية اشتهرت باستشراء ظاهرة الفساد، فهل يمكن في هذه الحالات الحديث عن الدولة والوطن !!