الروحية، مطلع يوم 18 ماي 2011، يكشف الإرهاب عن وجهه البشع ويحول جمال طقس ذاك النهار قبحا وموتا... لأول مرة منذ ثورة 14 جانفي المجيدة، تجد تونس نفسها أمام قدر فرض عليها، وهو قدر مواجهة الإرهاب... في الروحية حيث الجبل والهضبة والغابة والوادي والمزرعة... حيث الطبيعة العذراء، تسكن قرية من قرى تونس الهادئة، الآمنة، الحالمة...، يظهر الإرهاب الغادر، البشع ويسفك دماء الأبرياء ويروّع الأهالي ويبثّ الرعب في نفوس التونسيين... كان جزء هام من الرأي العام التونسي يتوقع منذ 14 جانفي، حدوث عمليات إرهابية وذلك في ظل التراجع الأمني الذي عرفته البلاد أثناء الثورة وهو أمر عادي. وقد طال الإنتظار فامتدّ إلى ما يزيد عن الأربعة أشهر ثم سقط قناع الإرهاب فجأة في أحد أيام شهر ماي 2011، واختارت الأقدار قرية الروحية الآمنة لتكون ساحة للإرهابيين. كما اختارت الأقدار عسكريين إثنين، مقدم ورقيب أول، ليستشهدا في سبيل تونس. وستعدّهما تونس بطلين من أبطالها وستحفظ ذكراهما إلى الأبد كما حفظت ذكرى كل من استشهد في سبيلها في حوادث الجلاز في 1911 وفي حوادث 9 أفريل 1938 وفي ثورة 18 جانفي 1952 وفي ثورة 14 جانفي 2011 وفي غيرها من الأحداث الكبرى التي عاشتها البلاد... ينسب الإرهابيون أنفسهم إلى الإسلام وهو منهم براء. ولن أخوض هنا في مسائل متصلة بالعقيدة الإسلامية وبالفقه وبمدى وجاهة التأويلات التي أعطيت للآيات المتعلقة بالجهاد ولكنني سأكتفي بتقديم بعض الآيات والأحاديث التي تفيد بأن الإسلام دين سماحة وليس دين عنف وإرغام، من ذلك مثلا قول الله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} وقوله {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وقوله أيضا {ادع إلى سبيل ربّك بالموعظة الحسنة} وقوله كذلك {لو كنت فضّا غليظ القلب لانفضوا من حولك} ... وأيضا حديث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وهذه الآيات والأحاديث على بساطة وسذاجة فهمنا لها فإنه فهم جميل وبنّاء يجعل العيش المشترك بين الناس ممكنا وذلك على اختلاف دياناتهم وأجناسهم وألوانهم. وهذا الفهم يؤكده قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. كما يتأكد ما ذهبنا إليه بمقتضى حديث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) الذي يقول: «لا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى» فالإسلام سماحة وتسامح وجمال وحبّ. وينتسب الإرهابيون إلى تنظيم القاعدة بفرعه في بلاد المغرب الإسلامي وهو تنظيم أخطبوطي إجرامي قتل عددا كبيرا من المسلمين الأبرياء في المغرب الأقصى وفي الجزائر وفي مصر وفي الأردن وفي العراق وفي باكستان وفي اندونيسيا وفي غيرها من بلاد الإسلام. كما أن هذا التنظيم أضرّ كثيرا بمصالح الشعب التونسي وعطّل ثورته وأجّلها لما يقرب عن العشر سنوات. كانت صائفة 2001 تنبئ بثورة في تونس فقد شهدت تلك الصائفة تحركات مكثفة للمعارضة التونسية سواء داخل البلاد أو خارجها وبدأت تلقى تأييدا شعبيا وتضامنا من قبل القوى الحرّة في أوروبا ولكن بصفة مفاجئة، توقف ذلك المسار يوم 11 سبتمبر 2001 لما أتى تنظيم القاعدة عمليات إرهابية في الولاياتالمتحدةالأمريكية. حينها قدّم الرئيس التونسي السابق نفسه على أنه حصن ضدّ الإرهاب فلقي دعما من الغرب. أما في تونس فقد أجهضت تلك الحركة الجنينية نظرا إلى أن عددا هاما من التونسيين استكان خوفا من مخاطر الإرهاب ورضي بالوضع القائم آنذاك. لم نخطئ إذن في وصف تلك التفجيرات بأنها إرهابية ولن نقول بأنه ما يسمى الإرهاب بل إنه فعلا الإرهاب. ولن نتوه هذه المرة كما حاول البعض أن يتوهنا في غياهب إشكال تعريف الإرهاب وعدم إمكان هذا التمرين العقلي. فالإرهاب هو اللجوء إلى العنف بقصد بلوغ أهداف سياسية بينما لم تستنفذ بعد كل الطرق والوسائل ذات الطابع السياسي. ولا يقتصر الإرهابي على التفجير أو القتل وإلا لوصفنا هذه الجريمة بأنها قتل بل إن غايته القصوى هي الترهيب أي إحداث الهلع والخوف في نفوس من بقي على قيد الحياة فيشل تفكيرهم ويجبرهم على تقديم تنازلات أو يلزمهم بالضغط على الساسة لتقديم تنازلات وهذا ما نجح فيه إرهابيو 11 سبتمبر حيث أرغموا حينها التونسيين على التنازل عن أحلامهم بالتغيير وبالرقيّ... ولكن هذه المرة سيفشل الإرهابيون في إثنائنا على عزيمتنا الصادقة في إنجاح ثورتنا. قد نختلف وقد نختصم وقد تعلو أصواتنا وقد تفرّق بيننا السياسة أو الرياضة أو رؤانا المختلفة لمسائل الدين والثقافة والتربية... ولكن ما يجمعنا أرفع وأسمى. إن ما يجمعنا هو عشق الحياة والحبّ والجمال والبحث عن سبل العيش المشترك والحلم بغد أفضل يسوده السلم والحريّة والمساواة والفنّ...قضيّتنا عادلة ومشروعنا جميل أما أفعال الإرهابيين فهي بغيضة مظلمة تقوم على العنف وعلى الكراهية. نحن الخير وهم الشرّ بكل ما تحمله هذه المقولة من بساطة وسذاجة طفولية... فمشروعنا هو بناء وتشييد السدّ ، سدّ الماء الذي دافع عنه مثقفونا وفي مقدمتهم محمود المسعدي أما فعلهم فهو الهدم والتخريب ومحاولة يائسة لإبقاء الأرض مغبارا عجوزا التي سنحبلها نحن وسنملؤها خصوبة وخضرة لأننا نؤمن بأنفسنا وبالإنسان الذي يسكننا ولأننا نؤمن بأنه «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر...» سنذهب إلى العمل وإلى المدارس وإلى الكليات وإلى الحقل ونزرع ونجني وسنركب البحر ولا نخاف من الغرق وسنرتاد المقاهي والمطاعم والفنادق والحانات والمساجد ودور السينما والمسارح والملاعب وسنغزو الشوارع والساحات وسنملؤها نبضا وشعرا وأغاني و... لأن ما يحرّكنا هو فرحة الحياة... لأن الإرهاب لا يرهبنا...!