ما حدث في المتلويّ هذه الأيّام مؤلم ومفزع. وليس من شكّ في أنّ أهلنا هناك يتوجّعون لما حدث مثلما نتوجّع ويسألون مثلما نسأل: كيف يمكن للدم أن يُهرَق بعد 14 جانفي قبل أن يجفّ دم الشهداء الذين صنعوا 14 جانفي؟ ارتفع طبعًا صوت العقل لمحاولة وضع حدٍّ لكلّ هذا. وتدخّل بعض الساسة الحكماء لرأب الصدع. إلاّ أنّ ردود الفعل السياسيّة ظلّت في أحيان كثيرة ولدى أطراف عديدة أقلّ بكثير ممّا تتطلّبه المرحلة، وهو ما لا يقلّ إيلامًا وإفزاعًا. لم تختلف ردود الفعل في أغلبها عمّا كان يعتمده النظام السابق: التفصّي من المسؤوليّة وتوجيه التهمة إلى واحد من اثنين: الشعب الذي لم يتخلّص من نعراته وغرائزه، أو الأيدي الخفيّة التي تشعل الفتنة. والحقّ أنّ ما حدث في المتلويّ قد يُنسب إلى شيء من هذا لكنّه ليس كذلك في المُطلق. فأنا ابن الجنوب، وأزعم أنّي عرفتُ المتلوّي بما يكفي منذ زرتُها قبل أكثر من ربع قرن، فوقعتُ في أسرها وأسر أهلها وأصبحت لا أنقطع عن زيارتها حتى في قلب فصل الصيف. كان البعض من أترابي يقصدون الشواطئ وكنت أقصد الجنوب من نفزاوة إلى حوض المناجم ومن قفصة إلى المتلوّي تحديدًا، وإلى أبنائها المناضلين على كلّ الأصعدة، لا فرق في ذلك بين رجال ونساء وعمّال وعاطلين عن العمل وطلبة ومربّين وكادحين ومثقّفين، أغمس في نبضهم قلبي وأشحن بوجودهم روحي وعقلي مبتهجًا بما يجسّدونه من تآزر على الشدائد وتلاحم في الملمّات وحبّ للحياة. أتاح لي ذلك أن أرى عن كثب كيف استطاع النسيج الاجتماعيّ أن يصنع من الجذور أجنحة، أي أن يطوّر المفردة القبليّة دون أن يمحوها وأن يسير في اتّجاه الوطن على الرغم من معوّقات المُواطَنة، دون أن يتنكّر للقبيلة. ليس احترام القبيلة عيبًا أو أمرًا مخجلاً مثلما يروّج الإنكاريّون. فحضور العرش أو القبيلة تحت السطح، ليس خاصًّا بتونس، بل هو ظاهرة عالميّة، ليس في حضورها ما يضير إلاّ ضمن حيثيّات معيّنة، وليس فيه ما يسمح بحدوث ما حدث هذه الأيّام إلاّ بفعل فاعل. ولعلّ العولمة نفسها بما أنتجته من غربة الفرد وتشظّي النواتات الجامعة، قد ساهمت في بعث أنواع من القبّليّة الجديدة، لا تخلو من جدوى، باعتبارها منظومات للإعلان عن الاختلاف أو لتوحيد الاحتجاج أو للدفاع عن حقّ. وهو ما حدث أثناء الثورة حين توحّد الشعب بكافّة أجياله وفئاته ومناطقه وقبائله وعروشه، والتأم الجرح الفاغر بين الجماهير ونُخَبِها، ونجح الجميع في الإطاحة بالطاغية لأنّهم تصرّفوا وفْق مبادئ الثقافة الجديدة: ثقافة جماعيّة أفقيّة تفاعليّة، لا احتكار فيها للزعامة ولا انفصال بين القمّة والقاعدة. إلاّ أنّ ما حدث بعد ذلك سرعان ما بدا عودة جديدة إلى الانفصال بين الساسة والجماهير التي يتكلّمون باسمها وينفردون بالقرار دونها ويخوضون بعيدًا عنها صراعات ويعقدون تحالفات وصفقات منتمية إلى الثقافة السياسيّة البائدة. لأحداث المتلوّي إذنْ صلة بأخطاء الطبقة السياسيّة تحديدًا. فمن الطبيعيّ حين تغيب الدولة أن تبحث الجماعات عن بدائل، ومن الطبيعيّ حين تغيب المؤسّسات أن يلجأ الفرد إلى نواتاته البدائيّة باعتبارها قِلاعًا هُوَويّة أو وسائل لتحقيق أهدافه. ومن الغريب في السياق التونسيّ والعربيّ عمومًا، أن يتصرّف الساسةُ طيلة عقود على أساس أنّهم شيوخ قبائل أو قادة عصابات ثمّ يطلبون من شعوبهم أن لا يتصرّفوا كقبائل! ثمّة إذنْ من الأخطاء، بل الخطايا السياسيّة ما هو مستمرّ حتى الآن ولم يرحل مع 14 جانفي. أخطاء وخطايا تتعلّق بالخيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة المنتجة للحيف والاحتقان. وبتجاهل الخطاب السياسيّ راهن الناس ومعاناتهم اليوميّة العاجلة. وبالقطيعة بين النخبة السياسيّة والشعب، فإذا البعض يتصرّف على أساس أنّ الشعب قاصر سجينُ طفولته محتاج إلى أب أبديّ يقوده بالسلاسل! بينما البعض الآخر يتصرّف وكأنّ شعبه فوق كلّ نقد، معلّقًا كلّ شيء على شمّاعة الآخرين ومن أسمائهم الحسنى: بقايا النظام البائد، فلول الحزب القديم، سدنة الفتنة، إلخ..! إلى هذه الأخطاء ترجع أسباب ما حدث في جانبه الأعمق. ومن الضروريّ تغيير العقليّة السياسيّة، ومصارحة الناس بالحقائق مهما كانت صعبة، والتخلّي عن فوقيّة الخطاب لمعاملة الشعب بالنديّة التي هو بها جدير، والتحلّي بالوعي اللازم لتحويل أحداث المتلوّي إلى درس يستفيد منه الحاضر والمستقبل. إذ ليس من المصلحة الوطنيّة في شيء التفصّي من المسؤوليّة، واستمرار طاحونة الشيء المعتاد في إنتاج الديماغوجيا نفسها من خلال عكاظيّات الهجاء والمديح المعتادة.