عن دار محمد علي الحامي بتونس ومنشورات مؤسّسة الدّوسري بالبحرين صدر حديثا كتاب «رواية الثورة التّونسيّة» للدكتور نزار شقرون. وهذا الكتاب يُعدّ من الكتب الأولى التي أرّخت للثورة التّونسيّة وسجّلت أهمّ أحداثها معوّلة، في المقام الأوّل، على«متابعات الكاتب لأهمّ وقائعها» ولهذا خلع شقرون على هذا الكتاب اسم «رواية»، وهذه العبارة تعني، كما أوضح الكاتب، «تسجيل ما عاشه وتابعه عن قرب» من أحداث «دون الادّعاء بالإحاطة بكلّ جوانبها»... أي إنّ هذا الكتاب أقرب ما يكون إلى شهادة ، شهادة مثقّف وشاعر عاش هذه الثورة وشارك فيها وتلظّى بنار حرائقها ، فهو من هذه النّاحية ليس راويا موضوعيّا منفصلا عن الأحداث ،يبصرها من الخارج،وينقلها بحياد....كلا فنزار شقرون مساهم في هذه الثّورة، محترق بنيرانها، فعلاقته بها لم تكن علاقة ذات بموضوع وإنّما كانت علاقة رحميّة فيها تتضايف المعرفة بالوجود . يضمّ هذا الكتاب أحد عشر فصلا (أو شذرة على حدّ عبارة الكاتب) تطمح مجتمعة إلى أن تجمع ما تشتّت من أحداث الثورة، تعيد ترتيبها، حتّى يسهل فهمها واستيعابها. ينطلق الكاتب من الفايس بوك بوصفه مهادا للثّورة، ومصدرا من مصادرها الأولى. فالثواّر، في نظر الكاتب، هم نسل الثّورة الألكترونيّة «خرجوا من نقرات الحاسوب ونوافذ شاشاته» تدفعهم «عفويّة التحرّر وتجمعهم قضيّة واحدة هي الكرامة». هكذا تخلّوا عن «الأنموذج البالي للإعلام والتنظّم والمطالبة» وأرسوْا إعلاما مختلفا يقوم على «التشارك والتفاعل» مدشّنين، بذلك، مرحلة جديدة في الالتزام السياسيّ خارج الانتساب الحزبيّ المألوف فأصبحت «شاشة الحاسوب مقرّا للحزب الواسع الجديد ....حزب يضمّ كلّ الأطياف والحساسيّات الفكريّة والسياسية..إنّه حزب الفايس بوك.» لقد تحدّر الشباب من كلّ الطبقات والفئات إلى هذا الوطن الجديد وطن الفايس بوك يتداعون إلى النّضال الاجتماعيّ مُصِرّين على المُضيّ قدُما نحو ضفاف الحرّية ، غير آبهين بأجهزة القمع تطاردهم واحدا، واحدا ...وتضيّق عليهم الخناق. وبحسّ سياسيّ مرهف تخلّى هؤلاء الشباب عن كلّ «قيادة» توجّههم وتحدّد أهدافهم، ومضوا، متآزرين، يضرمون نار ثورتهم في كلّ المدن التونسيّة ، متّخذين من الصّورة وسيلة للتحريض والاحتجاج والرفض وربّما وسيلة «لحرب تحرير طويلة» هدفها الأوّل ترسيخ قيم العدل والحريّة والكرامة بسبب من هذا بات «مجرّد إطلاق فايس بوكي واحد لدعوة إلى تظاهرة أو وقفة احتجاجيّة تتحوّل إلى إنجاز...لقد خرج هذا الجيل الثوري الألكتروني... ليسفّه أحكام النّخب والطّاقم الثقافي والسّياسيّ القديم. » كلّ محاولات النّظام السّابق لم تتمكّن من تطويق هذه الأصوات الغاضبة أو السيطرة عليها ،فلا الرّقابة على الأنترنات ،ولا غلق اليوتوب، ولا ملاحقة مستخدمي الشّبكة الاجتماعيّة استطاعت أن تضع حدّا للاحتجاجات التي أخذت تتّسع شيئا فشيئا لتشمل كلّ الجهات والفئات. كلّ هذا دفع الكاتب إلى الحديث عن «طابع تونسيّ» لهذه الثورة، فهي ثورة بلا أشباه، «ولدت خارج مصنّفات الثورات القديمة فلا مجال لمقارنتها بأيّة ثورة أخرى». وفي فصل «ثورة بلا قيادة» تبسّط الكاتب في الحديث عن عنصر النّار الذي ارتبط بالثّورة التونسيّة إذ كان «لابدّ من النار لكي تضاء تونس ...لابدّ من الاحتراق كي تشتعل الثورة ...» هذه النّار التي اشتعلت في تونس كانت قد اشتعلت، قبل ذلك، في أجساد أبنائها، وأشهر هؤلاء هو محمد البوعزيزي. فمن جسده المشتعل قبست تونس ثورتها...وبدّدت ليل الدكتاتوريّة الطويل. انبثقت الشرارة من محافظات الوسط لتنتشر، بعد ذلك، في كلّ الولايات لتجمع حولها كلّ الفئات الاجتماعيّة، لكنّ «قدوم المدد الطلاّبي»، على حدّ عبارة الكاتب، هو الذي جعل الثورة تأخذ منعطفا جديدا فيرتقي خطابها الاجتماعيّ من المطالبة بالتشغيل إلى المطالبة بالحرية والكرامة. توفّي البوعزيزي يوم 2 جانفي ونقل إلى مسقط رأسه وكانت الجنازة أشبه «بفيضان في يوم غضب تعالت فيه أصوات الاحتجاج أكثر واتحدت فيه اللوعة بإرادة تغيير النّظام». تأنّى الكاتب ،بعد ذلك، في قراءة الأحداث التي أعقبت الثورة، باحثا عن منطق مخصوص يجمعها جمع تلاؤم وانسجام. فتحدّث عن هروب الدكتاتور، وعرّج على الحكومة المؤقّتة، ثمّ وصف تفكّك الحزب الحاكم. ليلمّ، في غضون ذلك، بموقف المثقّفين. فتحت عنوان «هرولة المثقفين» تحدّث الكاتب بمرارة عن النخبة التي نظرت إلى الجيل الجديد نظرة توجّس وربّما احتقار. فقد عدّته «جيل النظام الدكتاتوري...وجيل التجارب المستمرّة لسياسات التعليم الفاشلة...» لهذا لم تعقد معه حوارا...بل لم تتعرّف إليه واكتفت بالانشغال بمهاتراتها وخصوماتها...لكأنّ النخبة كانت تحيا في زمن، والجيل الجديد يحيا في زمن آخر...لكأنّهما لا ينتميان إلى مجتمع واحد وإلى ثقافة واحدة.لكنّ الكاتب يستثني بعض المثقّفين الذين أسهموا، وإن بطرق رمزيّة، في هذه الثورة، ويذكر، على وجه الخصوص، بعض الممثّلين والسينمائيين الذين وقفوا أمام المسرح البلديّ بتونس وقفة غضب واحتجاج بحيث حوّلوا السّاحة الأماميّة للمسرح إلى خشبة«لمسرحيّة مرتجلة ...فجوبهوا بالضرب والتفريق بالقوّة...» يعقّب الكاتب على هذه الحادثة قائلا: لقد تفطن الفنّانون إلى قمع غريب فلا حصانة لهم حتّى وإن كانوا في الواجهة الأماميّة لصورة تونس. في خاتمة هذا الكتاب يعود نزار شقرون ليؤكّد أنّ الثورة التونسيّة جاءت على غير مثال سابق «حيث ولّدت الثورة ثوّارا بدل أن تكون وليدتهم ... «وخلقت حراكا سياسيّا لم تعرفه تونس من قبل...لكنّه يستدرك قائلا: أصبح هذا الحراك» محتاجا أكثر من أيّ مرحلة سابقة إلى رافعة ثقافيّة تحمي مكتسبات الثورة وتنشر قيمها باعتبارها قيما ثقافيّة تتأسّس على ميثاق المواطنة قبل كلّ شيء». إنّ قيمة هذا الكتاب لا تكمن في جانبه الوثائقي فحسب وإنّما في نبرته الذاتيّة أيضا.. فالكتاب ليس تسجيلا ليوميّات الثورة بقدر ما هو رواية لها...مع كلّ ما تنطوي عليه عبارة الرواية من أبعاد ذاتيّة ولعلّ هذا ما أشار إليه مقدّم الكتاب حين تحدّث عن توظيف الكاتب لحرفيّته الشعريّة والسرديّة «ليحقق مقاربة إبداعيّة للوقائع السياسيّة...فكأنّ الكتاب رواية لشذرات الثورة فهو لا يخلو من تقنيات السرد ومن أفق اللغة الشعريّة لتلتقي حداثة الثورة بحداثة الكتابة...».