٭ بقلم الموسيقار: د. محمد القرفي ما من شك ان بلادنا تشكو تخمة اللجان وهو داء انتفاخ يصيب المجتمعات المتوقفة في معدتها ونحن لسنا منهم بتوالي الشهادات الواردة من الغرب ولا يزيله الا الزبادي (الياغورط) الخاص بذلك علما بأن الدعاية لهذا المنتوج قد تندرج في هذا السياق. فمنذ فتحنا أعيننا على الحياة الدنيا رأينا لجانا هنا وهناك في السياسة والاقتصاد والثقافة وكل مجالات الحياة العامة تجتمع هنا وهناك لتبت في أمور عاجلة وأخرى آجلة او تخطط لما هو آت إن شاء الله ولما لم يأت أبدا. ونحمد الله حمدا كثيرا أننا لم نسهم في مثل هذه اللجان الا بنزر نادر قليل لأن تحليلنا لم يكن يعجب أصحاب القرار ولا يحمل تملقا لشخصيات سياسية مثلما أرسته العوائد المتبعة سابقا وحاضرا ولاحقا كما أننا لم نكن على علاقة مصاهرة او انتماء جهوي لأي كان او من خاصة المقربين الى مركز القرار. ومن حضر اجتماعات اللجان هذه يكتشف من الوهلة الأولى ان جل من تقع دعوتهم اليها خصوصا اصحاب الإدارة لا يفقهون في الاختصاص او أن مواقفهم وردودهم متملقة ومنافقة وكأن أصولهم منحدرة من جماعة بني «وي وي» (béni oui oui) وفي أفضل الحالات النادرة جدا ينطبق على بعضهم قول أبي العلاء المعرّي: ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى ظن أني جاهل ويتمخض الجبل فيلد فأرا. لجان واستشارات مضيقة وموسعة ونقاش مستبسل أحيانا بعنف الكلام بينما تقبع القرارات المرسومة من البدء في قاع الدرج تغمز المتحمسين بعين الشامت ولا تخرج الى نور الفنادق الا مفاجأة في الحلقة الأخيرة من المسلسل التمثيلي. وبعد الأكل والشرب المبرح يصادق عليها الجميع ويثمنونها ويكفّنونها ببرقية ولاء وتأييد ومناشدة ولكل مقام مقال عسى من تورّك فوق السحاب يرش عليهم بعضا مما تجود به بطنه، و«أطعم الفم تستحي العين». ومهما يكن من أمر فإن دور هذه اللجان يبقى استشاريا بحتا مثلما أرادته النصوص القانونية المرتبة لذلك وللمسؤول عن القطاع تثمين قراراتها إن راق له ما أرتأته أو رفضها أو تعديلها بما يوافق مزاجه او كذلك الاختباء تحت مظلتها للمماطلة ولّي ذراع «النافخين» بدعوى الديمقراطية و«أمركم شورى بينكم» خاصة في هذا المناخ المتقلب الذي ينذر بصيف وقّاد. ولنا ان نتساءل: هل يرتجى خير من هذا الرحي المتواصل للماء على الأقل طوال الحقبة الأخيرة من تاريخ تونس؟ عفوا، لسنا نحكي عن السياسة او الاقتصاد بل عن الثقافة او القطاعات التافهة الأخرى مثل التعليم والتكوين لأن السياسة لا تهمنا مثلما لا تهم الثقافة المشتغلين بالسياسة، فأهل الميدانين منفصلون عن بعضهم ومن فضل ربي ان لا أحد منهم يفهم في ما يفعله الآخر. وإذا كانت فكرة اللجان تحمل ضمنيا منطق الجدل والحوار وتبادل الرأي بين الخبراء نحو هدف نبيل فقد برهنت رغم أنف من لا يريد ذلك أنها غير ذات جدوى لما تحمله من نقائص موضوعية. فنيّة الاطراف المشاركة تبدو منذ البداية «مقعمزة» وكل واحد أتى وشيطانه في جيبه. ومما زاد الطين بلة ان المسؤولين صاروا بعد الثورة خوفا من غضب الجماهير واعتصامهم يستعملون اللجان «فترينة» لديمقراطية مزعومة و«لهقة» للتهرب من المسؤولية. كيف لا وفكرهم خال من اي مشروع ثقافي ولا يعرفون من الثقافة سوى التأرجح على الكراسي الوثيرة وسط المكاتب المكيّفة. ان ما يجري اليوم من مزايدات و«سوق ودلاّل» حول التظاهرات الفنية القريبة والمواعيد الثقافية البعيدة المزمع تنظيمها لا يدعو الى التفاؤل لأن كل إناء بما فيه يرشح. فنحن لا ننتظر شيئا من هذه اللجان القديمة الجديدة و«لو كان فالح راهو جا م البارح». إضافة الى ذلك فإن الأخبار التي تسربها بعض دوائر الإعلام لا تنبئ ان تغييرا قد حصل بعد الثورة بقدر ما تكرس وجوها كالحة كانت تهتف لترشح المخلوع لولاية أبدية ورصّعت أسماؤهم قائمات المناشدين. ولعلهم اليوم أمام هذا الوضع المزري يقهقهون بوقاحة القاتل: «تحيا الثورة المضادة وتبّا لأرواح من ماتوا في سبيل يوم آخر لن يرونه أبدا وطز في الجميع». إن الموت الزؤام يترصّد الثقافة في تونس إن لم نقل انه قد انقضّ عليها بعد ولم ينج من أوصالها سوى بعض الأسلاك الشائكة. نأمل من الله عزّ وجل ان يبدّل درهمنا بدولار وأن يبعث غمامة نافعة بعد 23 أكتوبر المقبل تنزل بردا وسلاما تخلّصنا من الأدران المدفونة في التراب. آمين.