قرار حكيم ومسؤول ذاك الذي اتخذته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيات ومن ثمة الحكومة، بسحب مشروع القانون التوجيهي للتعليم العالي من جلسة التصويت أمام البرلمان لإعادته إلى اللجان البرلمانية حتى يتواصل التداول في شأنه وحتى يعاد النظر في بنوده. وهو قرار من شانه أن يخفٌض من حدّة التوتر في الجامعة، ومن موجة الاستياء والقلق والإحباط التي انتابت الكثيرين وخاصة الجامعيين حول مستقبل التعليم العالي وإمكانية النهوض بأوضاعه إثر ما تسرّب حول مضامين هذا القانون. وهو قرار من شأنه أن يعيد إليهم الأمل في إمكانية إصلاح وضع الجامعة التونسية حتى يتسنى لها تبوأ المكانة التي تستحقها داخل النسيج الاجتماعي وحتى تتمكن من الاضطلاع بدورها في التكوين والبحث العلمي والإسهام في التنمية الاقتصادية والثقافية لاندماج أفضل لبلادنا في عالم منفتح أكثر فأكثر على المنافسة، ويقوم فيه إنتاج المعرفة بدور أساسي. كما أنه لا يتعين أن ننظر إلى هذا القرار على انه انتصار للبعض وهزيمة للبعض الآخر أو تقدم لطرف وتراجع لطرف آخر وإنما كفرصة قد تكون تاريخية لإحداث تحوٌل نوعي يقطع مع سلبيات الماضي ويضع منظومة التعليم في بلادنا على درب يجعل جامعاتنا قادرة على منافسة جامعات البلدان الأخرى، ليس على صعيد تبليغ المعرفة وإيصالها على نحو جيد فقط، وإنما على إنتاجها وتطويرها أيضا. ومن البديهي أن ذلك لا يكون ممكنا إلاٌ إذا تمكنت الجامعة التونسية من الحفاظ على الخبرات والكفاءات الفكرية والعلمية التي لديها الآن، واستطاعت أن تستقطب أخرى، وخاصة تلك التي تخرجت من الجامعة التونسية واستقرت في جامعات ببلدان متقدمة، في وضع يحتدم فيه التنافس بين الجامعات على صعيد العالمي، لاستقطاب الكفاءات العلمية والعناصر النوعية القادرة على تقديم الإضافة المرجوة على صعيدي التكوين والبحث. الحرية الأكاديمية.. غير أنه ووفقا لما تناهى إلى علمنا من خلال ما تناقلته الصحف وبلاغات الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي، ولما تسرب عن مداولات لجان مجلس النواب، ووفقا لما ورد كذلك في تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي، فإن مشروع القانون التوجيهي في صيغته الراهنة، لا يحقق هذا المطلب ولا يمكن من تحسين أداء منظومة التعليم العالي في بلادنا بحثا وتدريسا. فالجامعة التونسية تعاني من ضعف الممارسات الديمقراطية، ومن انعدام الجدل والحوار بين الفاعلين سواء على صعيد التدريس أو البحث، ومن تهميش متواصل للنخب والكفاءات العلمية والفكرية. ويكفي التذكير في هذا السياق، بأن نسبة المؤسسات الجامعية التي ينتخب فيها العمداء والإطار المشرف على التسيير لا تتعدى 10% من مجموع المعاهد والكليات المكونة لمنظومة التعليم العالي. ورغم أن سلطة الإشراف حرصت فيما مضى على القيام باستشارة المجالس العلمية قبل تعيين مدير معهد عال أو عميد كلية لم يتوفر فيها شرط وجود 8 مدرسين من صنف (أ)، حتى يتسنى لها انتخاب العميد من المجلس العلمي، فهي لا تبدو اليوم مهتمة بتوفر شرط التوافق قبل التعيين. بل أنها عمدت إلى تسمية في رتبة مدير من لم يحالفه الحظ للفوز بثقة زملائه في تولي مسؤولية العمادة في مؤسسة أخرى. كما أن مختلف لجان الانتداب قد أصبحت فعليا معينة من طرف الوزارة ولم تعد منتخبة. هذا وإن كان القانون يضمن في الشكل انتخابها، فإن الاشتراطات التي أدخلت لا حقا، مثل ضرورة قيام نصف المدرسين في الاختصاص والدرجة التي ينوي المترشح تمثيلها في لجنة الانتداب بالاقتراع، ولجوء الوزارة إلى المبالغة في تحديد موعد تقديم الترشحات كما حصل هذه السنة، جعل الكثيرين ينصرفون عن الترشح والانتخاب وينتظرون تكليفا أو تعيينا في إحدى لجان الانتداب، قد يأتي في يوم ما أو قد لا يأتي، فيغادرون الجامعة عند الإحالة على التقاعد ولم يسهموا ولو لمرة واحدة في مناقشة ملف مرشح للانتداب. أضف إلى ذلك أن صلاحيات العمداء والمديرين والمجالس العلمية، التي حشرها قانون سنة 1989 في زاوية ضيقة، بأن أوكل لها مهمة استشارية وجّردها من كل صلاحية اتخاذ القرارات، آخذة في التآكل لصالح تضخم مفرط لصلاحيات ومشمولات رؤساء الجامعات، جراء تعدد المناشير وكثرتها، باعتبارها تنهال عليهم وعلى إطار التدريس من سلطة الإشراف. كل هذا إمعان في تهميش إطار التدريس والباحثين وجعلهم غرباء في المؤسسات التي ينتمون إليها. أما فيما يتعلق بالجامعات، فأمرها يبدو غريبا في بلادنا.. إذ من النادر أن نجد في العالم هذا العدد المفرط من الجامعات لعدد من الطلبة لا يتجاوز 326 ألف طالب، وليس خفيا أن إحداث جامعة يعني تشكيل جهاز إداري جديد وخلق خطط وظيفية جديدة وتخصيص اعتمادات مالية إضافية مما يثقل ميزانية التصرف ويقلص المردودية، وهو أمر نلمس آثاره السلبية عندما ننظر إلى ما عليه بعض المؤسسات الجامعية من ترهل وتردي على مستوى البناء والتجهيز. ألم يكن من الأجدى دمج بعض الجامعات ببعضها وتحويل تلك الأموال التي تنفق في تسييرها إلى المؤسسات التدريسّية والبحثيّة؟ حول تسيير الجامعات.. أما من جهة التسيير للجامعات، فنحن لا نفهم لماذا هذا الإصرار الدائم على تهميش دور مجالس الجامعات، وعدم إعلام الجامعيين بمواعيد اجتماعاتها ودورها والقرارات التي من شأنها اتخاذها. إذ يبدو أن هذه المجالس عرفت نفس المصير الذي عرفته سائر هياكل التسيير الذاتي المنتخبة والممثلة في الجامعة التونسية، وهو أن يقتصر دورها على تقديم النصيحة والمشورة عندما يتفضل سيادة رئيس الجامعة ويدعوها للانعقاد في حين أنه ليس ملزما باتباع ما ارتأته. وفي الوقت الذي كنا ننتظر فيه من مشروع القانون التوجيهي الجديد أن يتلافى هذا الحيف في حق مجالس الجامعات، فإنه واصل في تجاهل دورها ولم يقض بتنشيطها وإعطائها فعالية أكبر في تسيير الجامعات والتنسيق بينها وهياكل التسيير الذاتي كالمجالس العلمية الموجودة داخل الأجزاء. وفي الوقت الذي أصبحت فيه استقلالية الجامعة مقتضى دوليا أساسيا وضروريا لتطور مجتمعات المعرفة، فإن مشروع القانون الجديد لا يقدم لنا إلا إشارات باهتة ومتناقضة حول هذا الأمر.. فإذا كان الفصل 10 ينص على أن الجامعات مستقلة في أداء وظائفها البيداغوجية، وأنها تضمن موضوعية المعرفة، فقد أحجم عن التنصيص على الأدوات لتحقيق هذه الاستقلالية، ولم يتوقف عند تبيان معناها. فنحن نعرف أن في الجامعات الأوروبية، والتي لم تلتحق بها الجامعات الفرنسية إلا هذه السنة، ودون تخلي الدولة أو الجماعات المحلية عن دورها في التمويل، فإن الاستقلالية تتعلق في جزء كبير بالتوظيف والانتداب (من الموظفين والعملة إلى الأساتذة والباحثين)، بالإضافة إلى التمويل والتصرف وقبول الطلبة وتوجيهم إلى مجالات التخصص، وكذلك بلورة الدراسات ورسم التوجهات الكبرى. ويجب أن يصاحب ضمان استقلال الجامعات، الحرص على عدم تحوّلها إلى مراكز للتكوين المهني، كما توحي بذلك الصيغة الواردة في الفصل 9 من مشروع القانون، عندما يعرف الجامعة بأنها "مؤسسة عمومية ذات صبغة علمية وتكنولوجية... تخضع إلى التشريع التجاريٍ"، أو في باب آخر عندما يعدد مصادر التمويل ليجعل ميزانية الدولة كمصدر أخير، في حين أن التمويل العمومي في أغلب بلدان العالم، باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان (حيث يمثل حجم التمويل العمومي 45.1% و41.5%) لأسباب تاريخية، يمثل التمويل العمومي المصدر الرئيسي لميزانية التعليم العالي.. ففي إنجلترا يمثل 72%، في حين أنه يمثل في ألمانيا 91.1%، وفي فرنسا 85.7%، أما في إسبانيا التي عملت على التخفيف من أعباء الإنفاق العمومي، عبر التشجيع على بعث الجامعات الحرة، فيظل مع ذلك في حدود 76.3%( المصدرOCDE 2002 ).. ليست مؤسسات للتكوين المهني ويجري الحديث اليوم على كون المؤسسات الاقتصادية قادرة على تمويل التعليم العالي، وهو حديث غير جدي، لأننا ندرك الأوضاع الهشة للمؤسسات الاقتصادية في بلادنا.. إن خطر تحويل الجامعات إلى مراكز للتكوين تنكّر لوظيفتها وطبيعة مهامها التي يمكن إجمالها في، إنتاج المعرفة العلمية وإدماجها ضمن حاجات المجتمع، وتوفير الشروط الأساسية لاكتساب المعارف، وتكوين المهارات التي تقتضيها مهن متطورة ذات قيمة إضافية عالية، ثم توفير تعليم قادر على الإجابة على أسئلة المعنى ومقتضيات العيش المشترك. ويتطلب كل هذا، مراجعة وإصلاح متواصل ودؤوب للمناهج وأنماط التفكير، وتوطيد الصلة بين البحث والتدريس ومدّ الجسور بين الاختصاصات. وهو ما يقتضي أيضا فك عزلة الجامعة وربطها بمحيطها ليس الاقتصادي فحسب، وإنما أيضا الاجتماعي والثقافي، حتى تسهم الجامعة في تطوير ثقافة المجتمع.. ليس خفيا على أحد، أن ذلك يتطلب تكريس مبدأ استقلالية وصون موضوعية المعرفة بضمان الحريات الأكاديمية.. إلا أن النص يعلن عن المبدإ دون تكريس له في الواقع، فكيف يمكن للجامعات أن تكون مستقلة في الوقت الذي يكون فيه رؤساؤها معينون من الوزارة ولا يساءلون من مجلس الجامعة؟ ثم لماذا غفل مشروع القانون عن التنصيص على ضرورة احترام وضمان الحريات الأكاديمية؟ هل لأن من تولوا صياغته يعتقدون في إمكان الفصل بين موضوعية المعرفة والحرية في إنتاجها ونقدها قصد تطويرها وترويجها والحوار والجدال بين أهل العلم من أجل تصويب مسالكها؟ إن كل هذا، يعطي الانطباع بأن هاجس التحكم الإداري قد طغى على صياغة مشروع نص القانون، فهو يطمئن الإداريين وذوي التطلعات الإدارية على مواقعهم والريع والامتيازات المكتسبة ونظام الوصاية، بدلا من أن يوفر الشروط والبنى الضرورية لتأهيل الجامعة التونسية حتى تكون جالبة ومنتجة للكفاءات والطاقات، بدلا من أن تكون نابذة لها، كما هو وضعها الراهن... ولعل ما يحز في النفس حقا، هو أنه في الوقت الذي تتنافس الجامعات في أوروبا وأميركا على جلب واستقطاب أفضل المتخرجين، نرى في بلادنا جمهرة من الجامعيين الشباب منهم من هو متحصل على الدكتوراه من جامعات أمريكية وأوروبية في اختصاصات علمية دقيقة ونادرة، معتصمين أمام الاتحاد العام التونسي للشغل يصرخون بأعلى أصواتهم "صامدين صامدين للتفاوض طالبين".. فإلى متى هذا الهدر للطاقات والوقت فيما أن الحوار والتشاور واحترام استقلالية الجامعيين وكرامتهم، والتعامل الندي معهم بدل الانفراد بالرأي، وتشريكهم من خلال هياكل التسيير الذاتي أو عبر ممثليهم، من شأنه أن يحفز هممهم.. فعيوب القانون الحالي بادية للعيان، والمشروع الجديد لا ينذر خيرا، وهذا ما تفطنت إليه المؤسسات الدستورية في بلادنا، من المجلس الاقتصادي والاجتماعي، إلى مجلس النواب.. وليس من المفيد الدفع بأولئك المستفيدين من الوضع الحالي، ومن غياب التشاور والشفافية والتشاركية، إلى امتداح السياسة الحالية ومشروع القانون، لأن عيوبه لم تعد خافية على أحد... (*) أستاذ محاضر بكلية العلوم الإنسانية