ان الوضع الحالي الذي تمر به الثورة التونسية مرده لا محالة تدخل وتكاتف العديد من القطاعات لغاية اجهاضها واسكات صوت الشعب وتمرير صوت البعض منه، ولا يفوتني في هذا الصدد التعريج على أهم القطاعات المتورطة في ذلك الصنيع وهو قطاع الإعلام المرئي، باعتباره الأقرب الى أنظار الناس وعقولهم، اذ في الوقت الذي تحرر فيه الاعلام المكتوب والى حد ما الاعلام المسموع، لاحظ التونسي أن القنوات الفضائية انحدر مستوى الخبر فيها الى ما أسوأ مما هو عليه قبل الرابع عشر من جانفي، واقتصر دوره على ازعاج الناس بوجود أشخاص ملوا من خطاباتهم ومواقفهم وهم يدعون المعارضة وحماية الثورة وهم في الحقيقة يتفننون في اختيار الألفاظ الفضفاضة واللامفهومة لغاية اقناع الناس بحسن نواياهم وهم قطعا لا يقدرون، أما أنباؤها فقد أضحت مركزة على الأخبار المقطوعة والصور المحجوبة، فترى الصحفي يستجوب شخصا أو ينقل خبرا وتتهيأ لمتابعته فتتفاجأ بقطع الكلام عنه واسكات صوته حتى قبل انتهاء جملة باللغة العربية المفيدة، أما الصورة فلا شيء فيها الا الذي يحقق هيبة الدولة وتحقيق الأمن والأمان وتعداد القروض والهبات الأجنبية، أما كان الاعلام المرئي في عهد المخلوع أرقى درجة مما هو عليه الآن، اذ كنا على الأقل نشاهد ونسمع تمجيدا لحامي السرقة ونهب الآثار، ولفاسقة تونس الأولى لكن بصفة متواصلة وغير مبتورة. اذا كان الاعلام المرئي هو السبب الرئيسي في محاولة اجهاض الثورة فإن المسؤول عن ذلك قد يكون القضاء ان لم يع بدوره الحقيقي والتاريخي في ارساء قواعد المجتمع الديمقراطي وتفعيل السلوك الاجتماعي المتحضر، فالعدل أساس العمران، وما تقدم المجتمعات الا بقضائها النزيه والمستقل، وقطعا لا يخفى على أحد المجهود الذي يبذله السادة القضاة على مستوى كل المحاكم وفي كامل أنحاء الجمهورية لملاحقة عصابات بن علي وازلامهم والضرب على أيدي العابثين منهم بأموال هذا الشعب الطيب والكريم، وبذلك فنداء التونسي اليهم مواصلة العمل على اقامة العدل ولفت النظر عن توجيهات أو تعليمات السلطة التنفيذية، فمن يسدي التعليمات اليوم قد يمثل أمام القضاء غدا، فلا سلطة عليهم الا سلطة القانون وضمائرهم واحساسهم بقدسية الثورة، فهم جزء من الثورة هيأ لها الشرفاء منهم قبل وقوعها برفضهم الانصياع الى أهواء المخلوع وعائلته بل فيهم حتى من طرد من العمل وجاع أبناؤه، وفيهم من هجر من موقعه من أجل الحق والعدالة، وهم جزء من الثورة بالتئام شملهم وتوحد صفوفهم واحساسهم بموقعهم التاريخي في ضرورة حماية ثورة شعب تونس، وقد ازدادت قناعتهم بحتمية القطع مع الماضي بمساندتهم للمحامين ومساندة المحامين لهم في محاصرة المتورطين من النظام السابق واتباعه. أما سياسيا فما يلفت الانتباه هو كثرة الأحزاب الموؤودة والمولودة، حتى فاق عددها التسعين حزبا أي بمعدل حزب عن كل مائة وعشرين ألف تونسي، لكن هيهات لم نسمع بحزب ونحن لم نستطع حتى ذكر اسمه قد تجاوز عدد منخرطيه ما يملأ حافلة مزدوجة العربة، باستثناء اثنين أو ثلاثة منها تستمد وجودها من الديمومة التاريخية ولا من الشرعية الشعبية، ولعل تكاثر الأحزاب وتوالدها سببه غياب المجتمع المدني أو تغييبه واقصاؤه من المجال الثوري، وذاك لعمري يشكل خطورة بالغة على مصير الثورة التونسية اذ في حين تحكم العمل السياسي البراقماتية والمآرب الذاتية الضيقة يرتكز المجتمع المدني في عمله على توعية الناس والاحاطة بهم وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. هذا في ما يتعلق بالأحزاب السياسية، أما في ما يتعلق بالحكومة فإن حبها للهيئات واللجان، قد ذكرنا بشغف بن علي بالصناديق، هيئات ترتعش من تسمياتها ومن طول أسمائها، فواحدة لحماية الثورة وأخرى للإصلاح السياسي، وأخرى لملاحقة الفساد وواحدة لمراقبة الانتخابات وأخرى لمصادرة أملاك العائلة المقبورة، الا أننا لم نر اصلاحا سياسيا ولا حماية للثورة، ولم نسمع أن مليما واحدا قد دخل خزينة الدولة من أملاك المخلوع وعائلته، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كونت تلك الهيئات واللجان من أشخاص لم نعلم من شهد لهم بالنزاهة والمصداقية، حتى انهم حينما يتحدثون للعموم يناقشونك في كل شيء الا في أمانتهم وكأنها من محصول الحاصل. لكن أسف الشعب التونسي لمنقطع النظير حينما يعاين أن الذين قدموا الحرية لهذه البلاد أبعدوا عن الساحة ليتحدث باسمهم من كانوا قبل الرابع عشر من شهر جانفي، في مكاتبهم يديرون مؤسساتهم ويغنمون المال ويمتطون السيارات الفخمة، حتى أن موعد الرابع والعشرين من شهر جويلية قد أصبح غير كاف لتحقيق ديمقراطيتهم المضنية، فمددوا في آجال عملهم الى السادس عشر من شهر أكتوبر من السنة الجارية، والله أعلم هل سيفاجئون الشعب بأجل آخر قد يكون السابع من نوفمبر من عام ألفين واثنا عشر، والحال أن منطق الثورة يفرض ألا تتكون تلك الهيئات بل ينشأ منذ الرابع عشر من شهر جانفي برلمان من شباب الثورة يتشكل من ممثلين عن كل الجهات بتفويض من متساكنيها خاصة المعدومة منها في عهد المخلوع، من اطارات ودكاترة تونس العاطلين عن العمل، ليكون تمثيلهم صادقا ونزيها، اذ بأي حق يموتون من أجل الحق ويضيع حقهم في الحياة، كل ذلك حتى لا تكون الهيئة صندوقا: هيئة جديدة لامتصاص الحريات وصناديق قديمة لتجميع الثروات وكأن الدستور الجديد للبلاد التونسية من الصعوبة بما كان حتى تستوجب صياغته كل هذا الوقت والحال أن الأمر سوف لن يتعلق الا بتعديل ثلاثة أو أربعة فصول منه، لا تكلف المختصين فيالقانون الدستوري يوما أو يومين من العمل لرتقها، وسوف يكشف التاريخ عن ذلك. وكلمة الختام، هو أن انتقادنا لبعض هياكل ومؤسسات الدولة والأحزاب السياسية، لا ينسينا ان ثورة الشعب التونسي قد كشفت عن وطنية جهازين اثنين كرسا جهدهما بصدق لحمايتها وثالث يتطلع بثبات الى ذلك، فأما الجهازان المشار اليهما فهما المؤسسة العسكرية برجالاتها وعتادها، وكذلك وحدات الحرس الوطني المختصة، التي برهن أعوانها واطاراتها على انهم بالفعل شرفاء وأوفياء للثورة وغيورين على حرمة تونس وحدودها، أما الثالث المتطلع لذلك، فهو القضاء بفرعيه: قضاة ومحامين، ديدنهم في العمل ملاحقة المتورطين في الفساد، من اتباع الزعيم الجاهل وعائلته الماجنة، لكن خلاف ذلك فهم الزائلون والشعب باق. بقلم: الأستاذ شاكر علوان