في مدينة صغيرة عمرها الأجداد منذ القدم، ولجأوا الى المرتفعات البعيدة عن المدن حتى لا تمنعهم أضواؤها من رصد النجوم، وكي يبقى قرص الشمس دائما معلنا بالأفق، لم يكن الحكم في عهد الأوائل يحبط طعم الحياة التي كانت ضمن الحكايات القديمة، لا أحد يتذكر كيف كانت بداية الحكاية الجديدة فقد ظهر حاكم شاب سارع في تتويج نفسه بعد أن ورث الحكم عن أبيه دون أن يرث الحكمة. حلم ذات ليلة أن كل أطفال القرية تحولوا الى قتلة للسلطان، فرفع عادات متصلبة، وعالم مرتكز على حتمية نظام متواصل مترهل، أرسى الأسوار وألغى الجسور، كانت فكرته الحفاظ على البلاد وحاكمها حتى ولو كانت معجونة بدماء الآخرين ،يخرج عليهم مرة كل شهر يتلو ما قام به من انجازات لصالح المدينة، يصفقون له، ويعودون الى ديارهم، كبر صغار المدينة وأصبحوا شبابا وكهولا، وهم لا يعرفون من أين أتى آباؤهم ولا من هم، لا يعرفون حياة أخرى، لم يشقوا أبدا عصا الطاعة، لم ينتظروا أبدا فرح الحرية، كانت الحياة تمضي عادية الأيام، والتاريخ يشهد لهم بالصبر على المكاره والصمود الجبان، يذهبون الى العمل كل صباح، يعودون الى البيت كل مساء، يتسامرون في المقاهي، ويهمسون في الفراش، يذهبون أحيانا للسينما لاغتيال ضجر لا يعرفون من أين يأتي، وذات شتاء.. قامت «عاصفة عظيمة» وهطلت الثلوج غزيرة مشعة، عاصفة عرفها أجدادهم في سنوات بعيدة، دامت العاصفة فترة، وتراكمت الثلوج وتعطلت الطرقات، وسدت مسالك المدينة، وأصبحت معزولة تماما، كانت المرة الأولى التي تحضر فيها السكان عاصفة ثلج في مدينة تنام وتستيقظ في سكون. في قمة التل كان هناك مستشفى للمجانين ببنيانه القديم المتواضع وممرضيه الذين هم أيضا مجانين حرمتهم الطبيعة من نعمة الاستسلام، خرجوا من السرب فحكم عليهم الحاكم بالجنون، لا يميز المستشفى عن بعد الا بستان رائع يحيط به من كل جانب، فتحت أبواب المستشفى وخرج المجانين الى المدينة ووضعوا الحاكم في قصره، وأخذوا زمام الحكم، طلب مجنون المجانين من المواطنين الاجتماع للاستشارة كيف ستكون المدينة في حكم مشترك فعند هؤلاء لا يوجد فرد، تردد السكان عن التعبير فلم يتعودوا ذلك، تعجب المجانين كيف أن الناس تحب الذل وتعتاد عليه فينسون النشوة والجدارة، درسوا برامج المستقبل ورسموا الملامح الاقتصادية لنظام اقتصادي ومالي واجتماعي لا يتغير بتغير فرد يقرر ويشرف ،تحدثوا عن الثروة الأولى للمدينة الزراعة،فبعد تلك الثلوج حفنة من البذور تصبح أرضا مثمرة من الغلال والخضار، وبما أنه كان من الصعب العمل للبنى التحتية بسبب الثلج، ركز المجانين والسكان الاهتمام بالعمل الثقافي رائد يكمل مسيرة ونجاح تعمير المدينة، وقف مجنون المجانين خطيبا قائلا «ما أشرقت في الكون حضارة الا وكانت من ضياء المعرفة» رغم الثلج أقاموا معرضا للكتب في منزل تراثي، حمل جميع الكتاب والأدباء والشعراء كتبهم لتشارك في المعرض، ورغم أنه كان هناك العديد من الكتب التراثية لم يحتفلوا بأي مئوية، تعرفوا على مدينتهم وتاريخها، أصبحت لديهم هوية، أين ما قلبوا ناظريهم كانت المدينة وكان الوطن، اكتشفوا أن ذلك الصخر المنحوت هو حد التوق لأجدادهم الذين كانوا يطوعون الصخر والفضاء والدروب ليجعلوا منه منجزا هو اليوم مدينتهم، تعلموا من أين تبدأ حكاية المعماريين والحرفيين، لا من حيث قررت دوائر حماية التراث ، لكن ما تتلوه الحضارات والثقافات كمعجزة الابداع البشري. ورغم الثلوج عزفت الموسيقى تحت أقدام ذلك التمثال الذي هرم وهو ينتظر لحظته التاريخية، أعاد السكان والمجانين اكتشاف تعدد الأمم والشعوب التي تعاقبت على جغرافية المدينة، أعادوا كل المقاطع التاريخية التي تعن على البال، امتدت الشرايين والأوردة متصلة من التلال الى الوادي، من غرب البلاد لشمالها لجنوبها لشرقها نوازع الأهل وتوقهم، واكتناز صور الطموح المسكون في العقول والمختلج في الثنايا. كان برنامجا مليئا بالأحلام الفعالة التي تولد من الأرض وتمكث في الأرض، وترتقي بمعان لم يعرفوها من قبل «حرية، ديمقراطية، عدالة» والمحافظة الى ما هو مأمول منها. هل هي نفس المدينة؟ أقسم المجانين أن يدافعوا عنها لآخر لوحة ثلج، لكن الشمس عادت لأفقها، وأخذت الأرض تمتص قطرات السائل من الثلج، وأتت المساعدة الخارجية لنصرة الحاكم المعزول، وألقوا القبض على المجانين لاعادتهم الى مأواهم، ووقف السكان تلفهم حالة من الحزن واليأس، يبكون ثلجا جميلا جمع «عقلاء ومجانين» لا يستطيعون أي فعل كان، التفت اليهم المجانين مودعين، قال لهم مجنون المجانين: «عودوا داخل السرب لكن سرب يغرد، كل شيء مؤجل، والزمن الحديث يحتاج الى عواصف، لا تضيعوا ما تركته لكم العاصفة، فمواسم العواصف نادرة، نبارك فيكم الروح النقية والنوايا، ولا بد أن نلتقي.. حين يعود الثلج من جديد ».