لقد اندلعت ثورة 14 جانفي المجيدة نتيجة الاستبداد والحيف واضطهاد السواد الأعظم من الشعب ماديا ومعنويا وكان من أهم وأحق مطالبها الكرامة ومحاسبة من توه الشعب وامتص دمه وشرد أبناءه واستولى على مقدراته وقتل أحراره، إلا أن هذه المطالب ومن أهمها محاسبة المستكرشين أولائك الذين عاثوا فسادا في ثروات البلاد ونهبوا ما نهبوا لم تتحقق ولم تر النور بل عتم عليها وهمشت ولفها الغموض والضبابية من كل جانب فخنفت بفعل فاعل وأبلغ دليل على ذلك المرسوم الذي صدر في موضوع العفو العام لصالح الذين أصدروا صكوكا دون رصيد في عهد النهب والسلب وتجويع العباد. فهل أن هذا المرسوم وخاصة ما جاء في الفصل الثاني منه كان واعيا بما أقره عندما «عفا» على المورطين في قضايا الصكوك بدون رصيد وقد صدرت ضدهم أحكام بالسجن؟ وهل أن ثورة الأحرار قامت لتكون مطية لمثل هذه الإعفاءات والمراسيم؟ الثورة لا تطالب بالتشفي والانتقام هي فقط تنشد حق أبنائها في كنف الهدوء والقانون وتقول بصوت واضح صادق لا وألف لا لمثل هذه الممارسات ولا تسامح مع من لم يحترم القانون ويحترم وطنه ويعمل على عزنه ومناعته ويساهم في بنائه البناء السليم، فهل أن المرسوم الخاص بالعفو عن مصدري الصكوك دون رصيد عدل بين الطرفين في هذا الأمر؟ فالطرف المتضرر(المستفيد) سيزيد ضرره ماديا ومعنويا ذلك أن التقاضي في هذا الشأن يتطلب مساحات كبيرة من الوقت ومصاريف ثقيلة تزيد من معاناة «المستفيد المتضرر» فيصبح مطلوبا بعد أن كان طالب حق أم المتهم فسيجازيه هذا المرسوم وربما يشجعه على المزيد من التجاوزات في مثل هذه الأمور وما بالطبع لا يتطبع ثم هل يضمن هذا المرسوم للمتضرر استرجاع أمواله من المتهم؟ ذلك أن هذا الأخير قد يكون مفلسا أصلا أو أفلس نفسه عمدا وحول ممتلكاته عقارية كانت أو مالية إلى فروعه أو شفرها مثل ما فعل المخلوع وعصابته بأموال الشعب، وذاك الجحش من ذاك الحمار. إذن من المستفيد في قضية الحال ومن المتضرر؟ صاحب الحق سيكون المتضرر ومرتين في نفس الوقت والمستفيد ومرتين أيضا هو صاحب الجرم،فل انقلبت المبادئ والمفاهيم في عهد الثورة؟ واعتقد أن الذين مرقوا على القانون وتحيلوا على الناس وداسوا حركة الوطن بأفعالهم تلك لن يتوبوا عن ممارساتهم الخسيسة ولن يكونوا شركاء أكفاء للثورة التي قامت من أجل محاسبتهم قانونيا لا من أجل مجازاتهم بمثل هذا المرسوم. وما يخوله لهم ومن يظن أن هؤلاء القوم سيعودون «مجددا» لتنشيط» الدورة الاقتصادية في البلاد فهم واهمون لأن من ناحية من بالطبع لا يتطبع ومن ناحية ثانية فلو كانوا مواطنين صالحين مخلصين لوطنهم ما عملوا أبدا على نهب أموال الشعب ولذلك لا تريد منهم الثورة أن يعودوا إلى سالف «نشاطهم» و«تنشيطهم» للاقتصاد الوطني بالمعنى الذي يؤمنون به هم لأن ثورة الأحرار قامت لتبني تونس على قاعدة العدل والمساواة والكرامة فلا مكان فيها للانتهازيين ولا مجال فيها إلى الحديث عن عفو مجاني صدر عن غير الثورة ومن يريد أن يعفو عنهم فليتفضل ويرجع نيابة عنهم أموال الشعب والمظلومين. ألم يكن هذا المرسوم قد هل مفصلا ومقاسا على أشخاص معنيين وفي هذ المرحلة بالذات؟ فلماذا لم يرجأ هذا الأمر إلى ما بعد الانتخابات فتنظر فيه حكومة شرعية ويكون قرارها شرعيا؟ فمثل هذه المراسيم وفي مثل هذه الظروف يعطل ولا يقدم ، وإذا مرر اليوم مثل هذه المراسيم فستمرر مراسيم أخرى على حساب ثورة 14 جانفي راكبة إياها ضاربة بمطالبها عرض الحائط. وإذا كان إصدار صك دون رصيد جريمة فإصدار مرسوم من هذا النوع باطل في حق المستحقين إلا إذا عملنا ب«الأقربون أولى بالمعروف».