(إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة) وإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. لقد كان للهياكل والقصور فرق خاصة من العازفين مهمتهم التهريج لتسلية الملوك, لكن كثيراً ما كانت تشترك الحاشية في التهريج والتصفيق، إذا اقتضى الأمر، حتى تحوّل التطبيل والتزمير إلى جزء من عمل الحاشية حين يحضر الملك, فتحوّل إلى احتراف, أي أصبحوا محترفين وفنانين في الهتاف تصفيق... وسرعان ما تحوّل كل هذا إلى مهنة لكسب الرزق, فكثرت المسارح الجوالة, ثم تحوّلت إلى فرجة ما يسمى (السيرك), فكثر التهريج والرقص على الحبال واتسعت دائرة الحلقة حتى أصبح العالم كله سيركاً، وأصبح الناس كلهم ممثلين لكن مع فارق بسيط: في الماضي كان المتفرجون يجلسون في الصالة، والممثلون يهرّجون على المسرح . أما اليوم فصار المتفرجون يجلسون على المسرح, والمنافقون يهرولون في الصالة. أراد الصمت أن ينتحر فتكلم.. وأراد الكلام أن يصمت فمات.. ما الفائدة من الصمت والكلام على الأفواه مشاع وبأرخص الإثمان . حرك لسانك فقط وأطلق عنانك فالموضوع لا يحتاج إلى جهد . انه في المتناول وقديما قيل: الصمت فضيلة لان كثرة الكلام تؤدي بصاحبها إلى الهلاك. لا يستطيع كبح جماح لسانه يريد التكلم طوال الوقت ولا يريد أن يسمع لان السمع فضيلة أيضا (سمع الملافظ سعد) كما يقولون لكنها تصبح نحسا ونكدا عندما توضع في غير موضعها الحسن خصوصا حين يكون الحديث مجرد حديث لا يغني ولا يسمن من جوع. هل هي رغبة جامحة في الحديث عند الثرثار أن يتكلم طوال الوقت ولا يصمت؟ الثرثارون يبيعون شبح الوحدة بالحديث والغوغاء وهم أيضا معرضون للأخطاء وزلات اللسان وهي رغبة جامحة كالطمع تعمي الإبصار وتصم الأذان وهي شعور بالنقص ويعوضه صاحبه بالكلام ولفت الانتباه وكان كلامه دررا لا ينطلق إلا بوحي أو نبوءة كأنه إذا تحدث صار موجودا وحاضرا ( خوذ العلم من روس الفكارن). فليثرثر الشاعر كما يريد لأنه شاعر والشاعر أصلا لا يثرثر لكن أن استدعى الظرف فليثرثر كما يشاء لأنه سيقول الحكمة والدرس المستفاد . هل نحن أمة ثرثارة لا نحسن الصمت. ولا الاستماع؟ هل نحن ظاهرة صوتية تجيد الحديث وتزويقه ولا نجيد العمل به؟ هل نحن صوت فقط ؟ وحتى الصوت قد يعطب أحيانا ويتوقف فماذا نفعل ؟ نتلذذ بالصمت ونسكت... الصمت حكمة لماذا يتكلم المتكلمون والسياسيون الآن لديهم مشاريع وتصورات وبرامج وتوجهات؟ أم لديهم ألسنة كبيرة وطويلة تخزن معسول الكلام والألفاظ المنمقة وقوة التبليغ والتواصل مع المتقبل حتى تبقى القوالب عندهم جاهزة ومركبة وطازجة تحكمها سرعة البديهة والرد السريع والفراسة وفي كل الظروف؟ المهم أن يتكلموا بعد صمت دام سنين وطال. لا يهم ماذا يقولون فوجودهم وكيانهم بألسنتهم وهم فقراء عندما يصمتون إلا نادرا لأنهم لا يحسنون الصمت ونجدهم متململين كأن ألسنتهم تريد أن تخرج من أفواههم حتى يقولون إننا هنا وماذا سيقولون؟ أكيد سيقولون الكثير لكنه كزبد البحر لا يفيد. سيتكلمون عن انتصاراتهم الوهمية وعن فتوحاتهم وانجازاتهم ويلتفون على الثورة يتقاسمون زبدها. سيألفون الحكايات ويصنعون الانتصارات وسيحكون لكم عن قصة الماء في الصحراء والقمر حين كان فيها البشر وكلما اقتربنا من الحكايات صارت سراب هم ممن يجيدون لعبة السراب والاختفاء لأنها تعبر عنهم ليس مهما أن تشاهدهم والاهم أن تناشدهم لكن المهم أن تسمعهم جيدا . يقول بعضهم إن كلمة (اللغة) من (اللغو), بينما يعتقد آخرون أن اللغة كلمة يونانية الأصل ربما(لنغوا)(ونظيرها في المعاجم العربية لسان). وقد ترددت هذه الكلمة في (فهرست) ابن النديم في قوله: اللسان العربي, اللسان السرياني, اللسان اليوناني إلخ... ولم تستخدم كلمة اللغة قديماً بمعناها المعروف الآن. وإنما كانت تطلق على اللهجة. كذلك لم ترد كلمة (لغة) في القرآن الكريم إطلاقاً بمعناها الاصطلاحي اليوم. وإنما وردت كلمة (لسان) عوضاً عنها. وهذا يعني أن كلمة (لسان) أكثر شمولية واستيعاباً من كلمة (لغة), حتى إنّ الفارابي أطلق في كتاب إحصاء العلوم على العلوم اللغوية اسم (علوم اللسان) وأطلق أبو حيان النحوي على (علوم اللغة) مصطلح (علوم اللسان العربي), وتابعه ابن خلدون في هذا، (مقدمته) الشهيرة باسم (مقدمة ابن خلدون) فصلاً بعنوان (في علوم اللسان العربي). وبالدارجة التونسية: (لسانو يدور برقبتو وظراب لغة ولسايني). لا نريد التعلم من الصمت لأنه نقص وضعف فالشخص الصامت ضعيف هكذا نراه... فنحن دائما ننظر بالسلب لا نقول: الحكيم والمتفهم والمعتدل دائما جبان ولأن له لسان لا يريد استغلاله. دافع عن حقك ولا تسكت ولا تصمت لما تلبس جبة الصمت وتستغني عن هذه الهبات اللفضية؟ لتقول انك حكيم دع حكمتك تأتي لك بالمال أن استطعت لا تصمت وتحلم كثيرا لك لسانك لا تسكت على حقك ... يكفيك صمت... وسكون... وسكوت... تكلم انطق ولا تترك للصبر حدود... فالصمت من ذهب وكذلك الكلام دفاع عن الحق وعن الشك... والشد... والمد والجزر في السياسة أنواع أسلمها هو الصمت ... (المخرج المسرحي والكاتب رياض الحاج طيب صفاقس)