كيف ينظر للمشهد السياسي في تونس بعد الثورة؟ وماذا يقول عن مستقبل الديمقراطية في بلادنا واحتمال الانزلاق نحو المجهول؟ ما رأيه في ما يحدث في هيئة تحقيق أهداف الثورة... وأي حلول يقترح؟ عن هذه الأسئلة يجيب محمد الحداد لو تقدم لنا في البداية قراءتك للمشهد السياسي في تونس بعد الثورة وأهم ما يميّز الواقع السياسي اليوم؟ من المعلوم أن تونس عاشت أكثر من 20 سنة دون حياة سياسية حقيقية وبالتالي فهي تبحث اليوم بعد الثورة عن طريقها الى الديمقراطية بين مكوّنات سياسية وفكرية عديدة، وهذه العملية ستكون عسيرة لغياب تقاليد العمل الديمقراطي من جهة وللضغوط اليومية الناتجة بعد الثورة من جهة ثانية، وحتى الطبقة السياسية التي كان من المفترض أن توجه هذا البناء الجديد نجدها في صراع بين مكوّناتها وقد تجلى ذلك في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وهذا يؤشر الى مخاطر الفراغ السياسي الذي يمكن أن تملأه مبادرات غير محسوبة من أطراف متطرفة هنا وهناك أو قوى مرتبطة بأجندات خارجية. واعتقادي أن المجتمع المدني في تونس ضعيف وأنّ هذه نقطة ضعف مرحلة ما بعد الثورة ودون مجتمع مدني لا يمكن أن تكون للديمقراطية دعامة قوية ولعلّ تضخم عدد الأحزاب تضخما غير مبرّر يؤكد أنّ الكثير من الناس يشعر بأنه لن تكون له مكانة في المجتمع، إلاّ إذا كان منتميا الىحزب، وهذا خطأ كبير، فالمجتمع الديمقراطي يحتاج الى نسيج جمعياتي والى نقاش لا يكون بالضرورة نقاشا سياسيا. والثابت أن عدم وجود مجتمع مدني قوي سيؤدي بالضرورة الى اشتداد الخصومات بين الأطراف وتحويل الوفاق الى محاصصة حزبية. وأنا أخشى على الديمقراطية الناشئة في تونس من أن تتجه الى المثال العراقي، بمعنى أن تكون أحزاب معادية لبعضها البعض وفي نفس الوقت مستحوذة على الحياة السياسية ومرتبطة بأطراف خارجية عديدة في حين يعيش المواطن العادي على المشاكل اليومية الضاغطة ولم يعد له أي دور في الحراك السياسي والاجتماعي. وكيف يمكن تحصين هذه الديمقراطية الناشئة من الانزلاق الى مثل هذا الاحتمال؟ من الضروري حينئذ أن نسارع بإعادة المسار الديمقراطي التونسي الى الوجهة الصحيحة، وذلك بتخفيف الاحتقان بين الأحزاب السياسية من جهة ودفع المجتمع المدني الى القيام بدور أكبر واحتلال مساحة أوسع في هذه الظرفية الدقيقة... وأخشى ما أخشاه أن نبقى في حالة فراغ حتى موعد الانتخابات. أو أن تتأجل هذه الانتخابات مرة أخرى أو أن يطعن فيها طرف من الأطراف، فهذا سيناريو كارثي سيدخل بلدنا في مرحلة لا نودّ أن نصل إليها. تحدثتم عن أنّ الفراغ قد يفتح الباب أمام مبادرات غير محمودة العواقب، وقد بلغنا أنكم طرحتم مبادرة لصيانة الوفاق داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة... فما فحوى هذه المبادرة؟ شخصيا تجمعني صداقات بعدة أطراف في الهيئة من جهات مختلفة لذلك دعوت شخصيات من حساسيات مختلفة للمشاركة في الندوة الدولية حول الأديان والديمقراطية التي انتظمت قبل أيام وأردتها فرصة للالتقاء والتحاور في ما يمكن للمجتمع المدني أن يقوم به لتخفيف الاحتقان الذي يهدّد المسار الديمقراطي لذلك وقع في الجلسة المخصّصة للتوصيات طرح فكرة مبادرة مساع حميدة لتقريب وجهات النظر وإعادة تفعيل عمل الهيئة باعتبارها الاطار الوحيد المتوفر حاليا للالتقاء بين الأحزاب والشخصيات الوطنية ومحاولة ايجاد وفاق يضمن الوصول الى الموعد الانتخابي بسلام، وقد اقترح كثيرون أن يُطلب من شخصيات وطنية تحظى باحترام جميع الأطراف بالتدخل في هذه المرحلة الحرجة وطرحنا الموضوع على الأستاذ حميدة النيفر باعتبار علاقاته مع مختلف الأطراف وبوصفه أول شخص انتقد بعض طرق العمل داخل الهيئة وانسحب منها اضافة الى أنه لا ينتمي الى أي حزب كما طُرح اسم العميد حميد بن عزيزة ونحن الآن بصدد تكوين لجنة مصغرة تساعد على اطلاق مبادرة قائمة على مبدأين. الأول محاولة اعادة الوئام داخل الهيئة لأننا نعتبر أن دورها لم ينته وأن المسار الديمقراطي مازال في حاجة الى عدّة قرارات رئيسية وأساسية لنجاحه وهذا لا يتم إلاّ بالوفاق خصوصا بين الأحزاب الكبرى. أما المبدأ الثاني فهو مراجعة بعض آليات اشتغال الهيئة التي كانت سببا على ما يبدو في وصول النزاعات الى ما تشهده حاليا، واسمح لي أن أتعالى قليلا عن الوضع الحالي لأحلم بطريقة أخرى لاشتغال الهيئة وهي أن تكون حلقة وصل بين القوى السياسية من جهة وعموم المجتمع من جهة أخرى وأن تنفتح على كل الآراء وألاّ تنغلق في اطار تجاذبات وآخذ مثال على ذلك العهد الجمهوري وهي مهمّة طرحتها الهيئة على نفسها ولم تستكملها والسؤال هنا هل سيقع اقرار العهد دون حركة «النهضة» بعد انسحابها... والمهم في رأيي في العهد الجمهوري ليس أن نصوغ بيانا خاصة أننا خرجنا من عهد كان قائما على البيانات وإنّما أن تكون صياغة العهد فرصة للنقاش بين التونسيين وأن تضطلع الهيئة بعمل بيداغوجي لا تقريري، فتجذب اهتمام كل التونسيين وتقرّب بين وجهات نظرهم المختلفة... فالهيئة ليست وصية على الشعب وإنما حلقة وصل بينه وبين الطبقة السياسية وما أخشاه أن يشتغل المجلس التأسيسي المنتخب بنفس الطريقة أي أن يظل محلّ تجاذب سياسي. ماهي في اعتقادكم الخلفيات التي تحرّك هذا الصراع داخل الهيئة وهل ترون أن انسحاب «النهضة» الذي قد تليه انسحابات أخرى والتجاذبات القوية داخلها قد تتسبّب في انهيار الهيئة وبالتالي التفكير في ايجاد بدائل لهذه الهيئة؟ ماهو مطلوب منا في تونس التوصل الى قواعد عيش مشتركة رغم اختلاف تصوّراتنا، فالعملية الديمقراطية ليست سهلة والشعوب العربية لم تشهد تجارب ديمقراطية وبالتالي نحن نبني شيئا جديدا ولا يحق لأي طرف أن يقول إنه الوحيد الذي سيوجه هذا العمل ويقود هذا الجهد، علينا الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى وأعتقد أن هذا الأمر ممكن إذا رفعنا من قيمة الحوار وأهميته. أما إذا تركنا لبعض المجموعات الصغيرة مهمّة توجيه هذا الحوار من خلال عمليات مثل ما حصل في سينما «أفريكا آرت» فإننا لن نتقدم كثيرا، ونحن بالمناسبة ندين ما حصل أمام تلك القاعة وأمام قصر العدالة. أما بخصوص مستقبل الهيئة، فلا أعتقد أنّه من المجدي حاليا البحث عن بدائل لأن المشكلة هي في التباين السياسي بين الفرقاء وحتى إذا تمّ تشكيل هيكل آخر ستتكرّر نفس المشاكل فضلا عن أن الهيئة اشتغلت الآن فترة طويلة وحققت بعض النجاحات خاصة في تقديم قانون انتخابي وأظن أن الأولى أن يقع تدارك هذه الهيئة بدل البحث عن هيئة جديدة ستقع في نفس المشاكل. وسنواصل مبادرتنا ومبادرات أخرى لمحاولة الوصول الى بداية نتيجة مع الأيام القليلة القادمة وأوّجه بالمناسبة نداء الى كل الجمعيّات الجديدة كي تضغط ايجابيا في نفس الاتجاه وكذلك الشخصيات الوطنية ذات الرمزية والاحترام.