صرخ «أرْمِيَا» باكيًا أمام خراب القدس: «آهِ لو أستطيع أن أصنع من دموعي أسنانًا للوردة»! صرخة تجد صدًى لها في نفسي اليوم وأنا أرى وردة هذه الثورة الممكنة تتناهشُها الأنياب من كلّ جانب. وكأنّها غنيمة جاهزة للوثوب أو مطيّة صالحة للركوب أو أرض لا تلين للبعض إلاّ محروقة. تلك هي أضلاع المثلّث الذي أطبق علينا قرابة ربع القرن. «وثب» بن علي على السلطة و«ركبت» عصابات النظام، وبينما كان جزء منّا «يحرق» إلى الخارج بحثًا عن جرعة من الأوكسجين، كان جزء آخر «يحرق بالمقلوب»، لغويًّا وفكريًّا وثقافيًّا، أو إلى الداخل السحيق، ولا جواز له غير «بطاقة هويّة» لا يريد الانتباه إلى أنّ صورته فيها لم تعد تمثّله. ثمّ خُلِع الطاغية وظنّ البعض أن أضلاع مثلّثه تفكّكت. فإذا الظنّ يخيب. وإذا مسلسل الركوب والوثوب و«الحرقان» متواصل. في هذا السياق أضع كلّ ما نراه اليوم من تأزيم للمرحلة الانتقاليّة، وتهديد للانتخابات، وتعنيف للمثقّفين، وتقسيم للتونسيّين بين مؤمنين وكفّار وسلفيّين وحداثيّين، بينما المرحلة واستحقاقاتها أعمق وأهمّ من ذلك بكثير. ليس الأمر صراع هويّات فشعارات الكلّ تتغنّى باحترام عروبة تونس وإسلامها وشعارات الكلّ تتغنّى بالعقلانيّة والحداثة. ولو كان الأمر صراع هويّات لسهل علينا التمييز بين من يتّخذ الجذور قيودًا تشدّ إلى الماضي ومن يصنع منها أجنحة تحلّق نحو المستقبل. لكنّه صراع سياسيّ يختطف الهويّات رهينة للتغطية على غياب المضامين والمشاريع. «في الهمّ ما تختار»! هكذا تقول عبارتنا العاميّة البليغة إصرارًا من الوجدان العامّ على التفاؤل. ولعلّ عزاءنا الوحيد في هذا الذي تمرّ به بلادنا أنّه يكشف لنا عن حقيقة أنّنا نتهجّى الديمقراطيّة ونتلعثم بها، وأنّ علينا بذل جهد كبير قبل الحصول على المُعدّل الضروريّ للنجاح في امتحانها! ثمّة شرخ قائم بين الشعارات والممارسة، يتحمّل الجميع جزءًا من المسؤوليّة عن تفاقُمه. شرخٌ أثبت التاريخ أنّه ليس في صالح أحد، وأنّه علبة باندورا سرعان ما تطلق شرورها في وجه من بادر إلى فتحها. كما أثبت التاريخ أنّ رجال الدولة الحقيقيّين يظهرون في مثل هذه المراحل، ليتميّزوا بوضوح عن المزايد الديماغوجيّ والانتهازيّ المحض والمستبدّ المتربّص. حاول الاستبداد على امتداد عقود صَبَّ الشعب في قالب الرأي الواحد، والحزب الواحد، والحاكم الواحد، والثقافة الواحدة. لكنّ الجانب الأهمّ من هذا الشعب ظلّ يتمرّد على القالب، دون أن يجد لتعدّده البدائل الكافية، أو لنقل، دون أن تستقرّ هذه البدائل على أرض الواقع والوجدان، كي تتحوّل إلى ثقافةٍ تعدّديّة في كنف التلاحم الذي لا يعني التماثل ولا يعني الأحاديّة، وفي كنف الاختلاف الذي لا يعني التناحر ولا يعني الاحتراب. ألجم الاستبداد الأفواه وعطّل الجدل وضيّق الخناق على الفكر والإبداع. ثمّ جاءت الثورة، أو لنقل الفرصة الثوريّة، فكشفت المستور وفضحت الفائض الإقصائيّ والضمور الديمقراطيّ لدى كثيرين، فإذا الشروخ عميقة، وإذا الوحدة أكثر هشاشة ممّا كان البعض يتوقّع، وإذا أمور كثيرة تدفع إلى الخوف من أن تُجهض الفرصة ولا تفضي إلى ثورة حقيقيّة. أظهرت الثورة ما كانت العقول والقلوب تضمر (مع احترام الاستثناءات): الرغبة في الانتصاب مرجعيّةً فكريّةً أو فقهيّةً أو سياسيّةً أو وطنيّةً أو ثقافيّةً واحدةً وحيدةً، يقابلها العجز عن الحوار والتواصل، العجز عن الاختلاف في كنف الاحترام، العجز عن الاعتراف بالآخر. وهو في النهاية عجز لا ينمّ عن تقدير للذات بقدر ما ينمّ عن احتقار لها. في ضوء هذا القصور الديمقراطيّ، ليس غريبًا أن تتفشّى المزايدات وأن تبقى شعارات الحريّة والكرامة والحقوق والقانون والمؤسّسات، شعاراتٍ فضفاضة، دون دماء الشهداء التي أريقت في سبيلها ودون معاناة المناضلين من أجلها. الثورة انتصار للحريّة والمساواة والعدل والكرامة، وقصاص من الجرائم الاستبداديّة عن طريق إعلاء القيم الإنسانيّة واحترام القوانين المتحضّرة وإجراء المحاكمات العادلة. وهي أيضًا اعتناق للتعدّد والاختلاف، واعتراف بأنّ الحقيقة ليست حبْسًا على أحد. ولا فرق في هذا السياق بين التخوين والتكفير على الولاء، لمجرّد الانتصاب وطنيًّا وحيدًا أو مسلمًا وحيدًا أو حداثيًّا وحيدًا أو مناضلاً وحيدًا أو بريئًا وحيدًا. وكم أتمنّى أن ينصت محترفو السياسة إلى نبض هذا الشعب وإلى مناضلاته ومناضليه بالفكر والساعد، كي يفهموا قبل فوات الأوان أنّ الإقصاء هو الإقصاء سواء تمّ تعميمه باسم المستبدّ أو باسم الثائر، وأنّ الاستبداد هو الاستبداد سواء تمّ تبريره باسم الطاغية أو باسم الثورة، وأنّ الحسبة هي الحسبة سواء تمّ إجراؤها باسم الدين أو باسم الدنيا. صرخ «أرْمِيَا» باكيًا أمام خراب القدس: «آهِ لو أستطيع أن أصنع من دموعي أسنانًا للوردة»! فأجابه «باث» بعد قرون: «حين تكون الوردة بلا أسنان فإنّ الجميع يأكلها حتّى الفراشة». أمّا أنا فأقول: علينا أن نجعل من الحريّة واحترام الآخر المختلف أسنانًا للوردة، وردة الثورة، كي لا تذبل قبل أن تتفتّح.