الإسلام تعدُّدي بالأساس وبالإرادة، وهو، بحكم ذلك، يقرّ الإختلاف. أو بالأحرى حريّة الاختلاف. فالقوّة التي ظهر بها الإسلام في القرون الأولى والتي مكّنته من الانتشار بسرعة مذهلة ومن استيعاب كلّ علوم وفنون الحضارات السابقة إنما مردّها هذه التعدّدية الفكرية التي تميّزه وهذا الهامش الواسع من الحريّة المتروك للعلماء والفقهاء لممارسة اجتهادهم وإيجاد الأجوبة للأسئلة الكثيرة التي يفرضها تعدّد واختلاف الشعوب المعتنقة للإسلام وتنوّع ثقافاتها. ومما يساعد على هذا التنوّع والاختلاف ان الاسلام في شقّه السنّي الغالب ليس عليه سلطة عليا مماثلة للبابا عند المسيحيين وهو ما من شأنه أن يحفّز على الاجتهاد ويساعد بذلك على بروز آراء مختلفة تثري بتنوّعها الفكر الإسلامي وتفتح المجال أمام الحلول الملائمة لكلّ ظرف زماني ومكاني. كان في هذه التعدّدية حكمة وكان في هذا الاختلاف رحمة إذ بفضل تلك وهذا تجنّب الإسلام السقوط مبكرا في الرأي الواحد والفكر الواحد. كان هذا التنوع حقيقة قائمة في كل المجالات في العلوم الدينية حيث تجاوزت مدارسها المائة في القرنين الأولين، وفي العلوم الفقهية حيث وصل عدد المذاهب تسعة عشرة مذهبا ثبتت منها أربعة مذاهب هي الحنفية والمالكية والحنبلية والشافعية. وكان أيمّة هذه المذاهب مختلفين في أكثر من مسألة منها مثلا قراءة الفاتحة في الصلاة، واعتبار هذه الفاتحة سورة أم لا، والقراءة في الصلاة الجهرية، والقراءة في الصلاة السريّة وغيرها من المسائل الفرعية. لكن هذا الاختلاف لم يكن يفسد للودّ بينهم قضية وكانوا يقبلون باختلافهم لا ينتقدون بعضهم البعض، بل كانوا يقرّون بضرورة تواصل هذا الاختلاف ويعتبرون أنهم أصحاب آراء وأن الآراء يجب أن تخضع للتعددية حتى تحتوي مشاكل ومشاغل الناس. ولعلّ من أجمل ما قيل في ضرورة وجوب هذا التنوّع والاختلاف ما قاله الامام الشافعي: «إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». والاختلاف والتنوع أقرّه القرآن الكريم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾ (سورة الروم آية 22). ويذكّرنا القرآن بآن الأنبياء اختلفوا في سورة الأنبياء: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ ( سورة الكهف). فالقرآن يبيّن لنا هنا أن الصواب كان مع سليمان وأن داوود كان على خطإ في حكمه لكن خطأه لا ينفي نبوّته. وكذلك حكى القرآن قصّة اختلاف النبي موسى مع الخضر في المسائل الثلاث المذكورة في القرآن .وخلاصة القول أن الاختلاف في الرأي أساسي في الاسلام وأن الذين يعطوننا اليوم دروسا في المنابر التلفزية ويريدون أن يفرضوا علينا قراءات وآراء معيّنة إنما يجب عليهم أن يتحلوا بالتواضع الذي هو من شيم العلماء وليتعظوا بالأيمة الأربع ويأخذوا منهم الدّرس.