أعترف أني لم أعد أفهم الرئيس قايد السبسي. هو، رجل الدولة الذي شبّ وشاب على احترام المؤسسات، هو، الراعي الأول لدستور البلاد. يضع مصيرها ومصير حكومتها التي هي ممثلتها الفعلية بين أيدي لجنة هجينة لا هي سياسية ولا هي قطاعية وإنما هي خليط يجمع بين مصالح متباينة وأحيانا متضاربة، وهي، أولا وقبل كل شيء، لا دستورية! كيف يقبل الرئيس الباجي الذي ظنّنا أنه صالحنا في هذه السنوات الثلاثة أو تزيد مع تقاليد احترام الدولة وقوانينها ومؤسساتها، كيف يقبل أن يسلّم ما وكّلناه عليه للجنة ما أبأس هذه الكلمة! ما أنزل الدستور بها من سلطان؟ لا، لم أعد أعرف الرئيس الباجي ذلك السياسي المحنّك الذي واجه كل الأعاصير الاجتماعية ونجا من كل الحروب السياسية التي عاشتها تونس طوال ما يزيد على نصف قرن، كيف يتخلى عن سلطته لفائدة أشتات مجتمعات لا شرعية حقيقية لأصحابها غير التي أعطاهم إياها صاحب السلطة نفسه ليحددوا أولويات البلاد الاقتصادية والاجتماعية. ولما تمكّنوا من الشرعية المهداة دون أي وجه حق، لأن مثل هذه الشرعية لا يعطيها إلا الشعب، مدوا أيديهم «للزنبيل» وأعلنوا حقهم في تغيير الحكومة وهو حق لا يمتلكه غير مجلس النواب. وفي هذه الأثناء، أي ما يزيد عن الشهرين يُفرض على الشعب التونسي المنهوك بغلاء الأسعار حضور عرض مسرحية لا تنتهي أحداثها بين القصبة وقرطاج لتعيد كل يوم هذا السؤال السريالي: رئيس الحكومة باق أم ماش؟ لقد سئم التونسيون هذه المسرحية السّمجة «الماسطة» التي أكلت من وقته وشغلته عن مصالحه والتي، كلما طالت زادت ورطة الرئيس الباجي تعقيدا. فإن لم يستجب لطلبات لجنة قرطاج II يكون وقتها السؤال: فلماذا جمعها إذن؟ وإن استجاب لها ودفع نحو إقالة يوسف الشاهد لأن ذلك هو الهدف فسيكون السؤال: ماذا تبقى لرئيس الجمهورية من صلاحيات؟ بل أخطر من ذلك: فستُخلق سابقة سيئة تغيّر طبيعة النظام وتعطي السلطة «للجنة شعبية» تقفز فوق الدستور وتخلع وتنصب من تشاء متى تشاء. ثم لنفترض أن يوسف الشاهد أقيل غدا، فهل فكرنا في كل الأضرار التي قد تلحق بالبلاد. باستقرارها الداخلي، بصورتها في الخارج، بمصداقية مؤسساتها، بتواصل تعهداتها بالتزاماتها؟ هل فكرنا في كل الوقت الذي سنضيعه في التشاور والتفاوض والمساومة والترضية والذهاب والإياب بين قرطاج والقصبة وباردو. كم سيستغرق كل ذلك من وقت... شهرين، ثلاثة أو أربعة أشهر مثلما حدث مع حبيب الصيد؟ سنجد أنفسنا عندئذ في قلب عاصفة الانتخابات التشريعية مع ما سوف تخلفه معركة التغيير من انقسامات وجراح. إذ لا يجب أن ننسى أن مطلب تنحية الشاهد أصبحت تفوح منها رائحة حرب بين أشقّاء سوف تنتهي إن انتهت بمزيد تجزئة الحزب الحاكم واضعافه سنة وبضعة أشهر فقط قبل الانتخابات الكبرى. فهل يتصور البعض ان الشاهد الذي لا ينفك، كما سنحت له الفرصة، يذكّر أنه في مقتبل العمر سيكتفي بالفرجة مثلما فعل سلفه الصيد؟ ثم لنفترض أنه تمت إزاحة يوسف الشاهد فأي قدرة ستكون لخلفه أيا كان لحلّ المعضلات الأربع التي يجابهها اقتصاد البلاد: اختلال توازن المالية العمومية وما يتبعها من تعاظم فاتورة الأجور أولا، انحدار الدينار وانخرام الميزان التجاري ثانيا، التداين المتواصل لتوفير الأجور ثالثا، وعجز الصناديق الاجتماعية رابعا. معطيات اقتصادنا صعبة وليس للبلاد وقت تضيعه.نغير يوسف الشاهد لماذا؟ اللهم إذا كنا متأكدين أن خلفه ستكون له عصا سحرية فإن النتيجة الوحيدة الممكنة هي جلبة إعلامية ثم ركود وفتور. هناك نتيجة أخرى محتملة: سيكون لنا مرشّح رئاسي إضافي. سيدي الرئيس: ثمة جو سيئ يلفّ البلاد اليوم بسبب هذه المسرحية الرديئة. رجاء، خذ الكتاب بقوّة.