لا يمكن ان تمر كارثة غرق عشرات الشباب التونسيين في مركب "حراقة" في سواحل قرقنة دون ان نعرج على دور المؤسسات الثقافية والقنوات الفضائية والدخلاء على الفن والثقافة في الترويج لثقافة الموت والإحباط وهي من بين الأسباب التي تدفع بالمئات من الشباب الى الارتماء في أحضان الموت ... تونس «الشروق» عندما لايجد الشباب فضاء ثقافيا يوفر له برامج تثقيفية توعوية ماذا سيكون مصيره ؟! عندما تقدم التلفزات التونسية برامج تروج للعنف والجريمة والقتل مقنعة ومقننة ومجملة فكيف سيكون حال الشاب المستهلك لهذه البرامج ؟! عندما يكون الدخلاء على الفن والثقافة والإعلام بالعشرات ماذا تنظرون من المادة الثقافية أو الفنية أو الإعلامية التي سيروجون لها سوى مضامين غير مدروسة تسوق للإرهاب والتطرف والجريمة وتبعث على اليأس والإحباط ؟! ... استفهامات عديدة فرضتها الفاجعة التي تعيش على وقعها تونس منذ يومين وهي غرق مركب على متنه قرابة ال 180 "حارقا" من شباب تونس وبعض الأجانب. وان يتحمل هذه المسؤولية كل من الحكومة والدولة والمجتمع المدني فإن للمؤسسات الثقافية والإعلامية وللمثقفين ايضا دور كبير في ذلك ، فالشاب التونسي وللأسف محاط بعدة عوامل تدفعه الى اختيار ما يسمى بقوارب الموت فإما الوصول الى الحلم كما هو يراه او أن يدفن حلمه في عمق البحر. وللجانب الثقافي والتوعوي دور كبير في ذلك فالتصحر الثقافي الذي تعيشه الجهات وشبه غياب دور الثقافة والشباب وانعدام الأنشطة الثقافية والتوعوية كلها اسباب تدفع بالشباب الى الشعور بالإحباط واليأس عندما يجد نفسه يتسكع بين المقاهي وتحت جدران المنازل دون إحاطة فيدفعه اليأس الى الرمي بنفسه في احضان الموت ... وللأسف انتشار ثقافة الإحباط واليأس لا تتوقف على غياب دور الثقافة فحسب بل انها تحاصر الشاب حتى في منزله عبر التلفزات التي باتت تروج بشكل فاضح لهذه المفاهيم من خلال المنوعات والمسلسلات وغيرها من المواد الإعلامية التي اصبح يتحكم فيها منطق الربح والخسارة فبعض هذه البرامج اما ان تروج للإرهاب والجريمة والحرقة وغيرها واما ان تبرز البذخ والبحبوحة والمليارات والمنازل الفاخرة التي يعيش فيها البعض مما يؤثر في المراهق الذي لا يملك بعض الدنانير لسد شهواته ومع غياب التأطير والبرامج التوعوية يجد نفسه منجذبا الى هذا النوع من الحياة ولتحقيق ذلك يلجئ الى هذه القوارب التي تبعث به في النهاية الى الموت من جهة اخرى يواجه المراهق والشاب عدد من الأعمال المسرحية والسينمائية فيها من المضامين التي تبعث على الإحباط واليأس وهي بإمضاء دخلاء على هذه المهنة اذ اختلط الحابل بالنابل واصبح المنشط منتجا ومخرجا والفنان منشطا وتداخلت الأدوار لتفرز مادة لا علاقة لها بالفن والثقافة بل ابدعت في بث حالة من الإحباط واليأس لدى الشاب الضحية الأولى لسياسة الدولة وللسياسة الثقافية لهذه الدولة ... ترويج خبيث لثقافة الموت والإحباط وفي هذا الصدد يتحدث المسرحي حمادي المزي ويقول " للأسف هناك تغير كبير في المجتمع التونسي مقابل اضمحلال المجتمع الذي بني إبان الدولة الحديثة والأسباب عديدة اهمها ظهور القنوات الخاصة التي تروج لصورة خاطئة عن المجتمع فهي لديها مشاريع لتدمير هذا المجتمع ... يضيف حمادي المزي " ما تسوق له هذه التلفزات لا يشرف ولا علاقة له لا بالبعد الثقافي او الفني او الجمالي ... فهل الوقت يسمح بتمرير مثل هذه الأعمال الدرامية "شورب" ؟! هناك ترويج خبيث لثقافة الموت والإحباط والأخطر من ذلك داخل هذه المؤسسات هناك جيل متخرج من المعهد العالي للفن المسرحي لكنه اختار الطريق السهل لتشويه الفن والإبداع يصنعون له صورة جديدة وبين عشية وضحاها يصبح لديه عمل مسرحي لا علاقة له بالفن يجوب به ولايات الجمهورية ومن هنا يبدأ الترويج لثقافة الإحباط ... يؤكد محدثنا " انا اعرف جيدا ذهنية المبدع التونسي يختار ظرفية مثل شهر رمضان ليقدم عكس ما يفرضه عليه ضميره وللاسف كل ذلك يؤثر بشكل او بآخر على المجتمع وعلى الشاب بصفة خاصة لتكون النتيجة كارثية ..." حمادي المزي يقول ايضا "عادة ما يصور المبدع ما يعكس صور المجتمع المهمش والمستضعف سواء في المسرح او السينما واليوم وكأننا امام صيحة فزع من الفنانين للفت الأنتباه الى هذه الشريحة والإعلان عن ظاهرة خطيرة تهدد كيان المجتمع وهي الهجرة السرية وللأسف ردود فعل السياسي ظرفية ترقيعية..." يضيف "في بداية الدولة الحديثة ذهبنا شوطا لا بأس به في معالجة هذه الظواهر لكن في فترة ما حصل المنعرج وظهر مجتمع ليبيرالي استهلاكي خلق بدوره نظم اجتماعية جديدة ومواطن يستهلك المأكولات والمشروبات في غياب تام للجانب الذهني .." مؤامرة على عقل الشاب التونسي وللمسرحي نور الدين الورغي رأي في الموضوع ويقول "هناك سببان يقفان وراء هذه الكارثة الأول المسؤولية الكبرى التي تلقى على كل الحكومات التي مرت بها البلاد مُنذ 2011 ولم تفي بوعودها ونوهت على الشباب وأغرقته بوعود كاذبة وعندما يشعر الشاب بكل هذه الترهات ويرى جميع الآفاق منسدة يصبح انتحاريا بدون ان يشعر امان يصبح داعشيا او "غبارًا" او يهجم على امواج البحر المتراكمة وبالنسبة له كل هذه الحلول مشروعة يضيف الورغي " المتهم الأول في هذه الكارثة هي دولة لا سياسة لها ولا آفاق ولا ثقافة ..." اما السبب الثاني يقول محدثنا " بعد 2011 لا حظت ان ثقافة اخرى لا تقل خطورة عن الأولى هي ما تبثه القنوات التلفزية من برامج ومسلسلات تافهة تجعل من الشاب التونسي يتأثر بها ويتماهى مع ما جاء فيها رغم سطحيتها وبلادتها وغياب عمقها انها مؤامرة على عقل الشاب التونسي فأين هي الكتابات التي تجعل الشاب التونسي يشعر بالإنتماء الى هذه الأرض والبقاء فيها والنضال والكفاح من اجل تغيير ما يشوبها من فساد وسوء تصرف ..." يؤكد نورالدين الورغي " ندائي الى النخبة المثقفة ان تتحمل مسؤوليتها وتفضح المتسببين في هذه الكارثة الدولة وثقافة الغباء ...".