رغم التقدّم العلمي المذهل الذي تحقق بفضل الثورة الرقميّة وتطوّر وسائله وآلياته فإن المجتمع العلمي لا يزال عاجزا عن فهم كنه هذا السائل الذي لا حياة من دونه: الماء! إنه لغز. بل إنه اللّغز. في آخر كتبه حول الماء والذي عنوانه «معجزة الماء المنسيّة» يكشف أحد أشهر المختصّين في المجال الفرنسي جاك كولان(1) أنه إلى حدّ الآن عجز العلماء عن فهم الخصائص الفيزيائية والفيزيولوجية الدقيقة للماء. في الماء سرّ عميق قد يكون مأتاه أنه سبق خلق الإنسان. ففي حديث للرسول صلّى الله عليه وسلّم: «بُعثتُ وآدم بين الماء والطّين». فكل الحضارات عظّمت الماء وأولته مكانة رئيسية في معتقداتها، وكل الأديان السماوية أعطت الماء أهميّة قصوى وجعلت منه شرطا وأساسا لطقوسها، والإسلام وارث الأديان التوحيدية أعطى للماء مكانة وقيمة خاصتين حيث ذُكر الماء وتفرعاته في القرآن قرابة 160 مرة وجاءت أوصافه متعددة: «ماء صديد» (سورة إبراهيم آية 16)، «ماء غير آسن» (سورة محمد آية 15)، «ماء مباركا» (سورة ق آية 9)، «ماء غدقا« (سورة الجنّ آية 16)، «ماء فراتا» (سورة المرسلات آية 27)، «ماء ثجّاجا» (سورة النبأ أية 14).. والماء في القرآن جاء على معنيين متناقضين. معنى إيجابي من حيث هو هبةٌ من اللّه لا من غيره: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} (سورة الواقعة) لبثّ الحياة في الأرض: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ». ومعنى سلبي يصبح به الماء وسيلة للعقاب لإغراق الظالمين والمفسدين. ومن ذلك غرق فرعون: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} (سورة الشعراء آية 66). فالماء نعمة ورمز للحياة. ويمكن أن يتحوّل إلى نقمة ورمز للموت. لكن صفة الماء كواهب للحياة هي الغالبة وهي كذلك مقترنة بالجنّة: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (سورة البقرة آية 25). ويوصف عرش الله بأنه قائم على الماء. وترتبط قصص الأنبياء ومعجزاتهم بالماء. فنوح نجّاه الله من كفر قومه بفضل السفينة التي أمره ببنائها حتى إذا جاء الطوفان حمل السفينة ومن فيها وما فيها، والنبي صالح ارتبطت كذلك معجزته بالماء الذي رفض قومه تقسيم شربه بينهم وبين الناقة وعقروها، والنبي إبراهيم الذي أسكن من ذريته في واد غير ذي زرع كذلك بنى الكعبة بفضل اكتشاف ماء زمزم الذي كان معجزة إبنه اسماعيل وزوجته هاجر، وموسى الذي نجا من مطاردة فرعون له بفضل انقسام البحر وتركه يمرّ هو وقومه قبل أن يغرق فرعون وجنوده، والنبي يونس الذي ابتلعه الحوت ثم لفظه لأنه كان من المسبّحين، وعيسى وأمّه مريم اللذان جعلهما الله آية وآواهما إلى ربوة ذات معين، أي ماء يُرى بالعين.. وتذكر السّير في خصوص سيدنا محمد (صلعم) أربع معجزات أولها نبع الماء الذي انبجس من بين أصابعه فتوضأ ثلاث مائة ممن معه، وثانيهما شربه (صلعم) يوم الحديبيّة من بئر لا ماء فيه وشرب معه 1400 من المسلمين وركائبهم، وثالثها تحويله الماء المالحة إلى ماء عذب، ورابعها جعله بئر قباء الفارغة المهجورة تمتلئ ماءًا. يحتلّ الماء بُعدًا مميّزا في الفقه الإسلامي باعتباره عاملا أساسيا لطهارة المسلم في ممارسة عبادته. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (سورة الفرقان). أما عند المتصوّفة فإن الماء يمثل الرّمز الأكبر للمعرفة لذلك يوظفون البحر للتعبير عن اتساع المعرفة والعلم الالهيين كما في طاسين السّراج للحلاج(2): «فوقه غمامة بَرقَتْ، وتحته بَرقةٌ لمعت، وأشرقت، وأمطرت، وأثمرتْ، والعلوم كلّها قطرةٌ من بحره، والحِكَم كلها غَرفةٌ من نهره». لم يبح الماء بأسراره ولا يزال العلماء في أكثر البلدان تقدّما يبحثون في فهم كنهه وفك رموزه. لعل الماء يحمل جوهر إصلاح الإنسان وحاجته العمقة لاستعادة نقاوته الأصلية الأولى التي خلقه اللّه عليها.. ولعله وقد يصبح غدا أخطر امتحان لإظهار إنسانية الإنسان أو وحشيته. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أينما كان الماء كان المال، وأينما كان الماء كانت الفتنة». فمن أنت أيّها الماء؟ 1) جاك كولان: معجزة الماء المنسية: Jacques Collin: L›eau, le miracle oulbié 2) هو الحسين بن منصور الحلاج: من أشهر المتصوّفين أُعدم في بغداد سنة 922م.