في مساء يوم 19 جانفي 1974، قرّر الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أن يسافر إلى جنيف لكي يستريح قليلا من الضغوط التي تعرّض لها بسبب توقيعه اتفاق الوحدة مع العقيد الليبي معمر القذافي. ولدى حلوله بسويسرا، صرّح بورقيبة للصحافيين قائلاً: «إننا سنتولى تعديل الدستور لندرج فيه الاستفتاء. وستسير الأمور بعد ذلك في وجهتها الطبيعية نحو الوحدة مع ليبيا. إنّ الوحدة بين تونس وليبيا ترتكز على أسس متينة». كان ذلك تصريحاً مهما من بورقيبة، أعاد به خلط الأوراق من جديد وبدا معه أنه مصمم على تحدي كل تلك الضغوط التي واجهها خلال الايام الاخيرة من اجل الوحدة مع ليبيا. نزل كلام بورقيبة نزول «الصاعقة» على بعض وزرائه وخصوصا على زوجته «وسيلة» والوزير الأوّل الهادي نويرة الذي قرّر أن يرد على هذه التصريحات، من خلال حوار صحفي أجراه في يوم 22 جانفي 1974 مع صحيفة «لو موند» الفرنسية، قال فيه إنّ «إعلان الوحدة هو مجرّد تعبير عن مُثل عليا، وينبغي علينا أن نواصل إنشاء مشاريع مشتركة مع الليبيين، ولا سيما في الميدان الاقتصادي، إلى أن يأتي، في نهاية المطاف، الوقت الذي لا يبقى فيه علينا سوى تتويج البناء الوحدوي بالتاج الدستوري». مثّل حديث نويرة «نسفا» كاملا لمشروع «الوحدة» مع ليبيا. وأحسّ القذافي بأن الفرصة التاريخية قد بدأت تضيع ، فقرّر السفر إلى جنيف للقاء بورقيبة، وثنيه عن التراجع عن الاتفاق. وفي مساء يوم 25 جانفي عام 1974، علم عدد من وزراء بورقيبة أن العقيد الليبي سيلتقي رئيسهم صبيحة اليوم الموالي، فعزموا على إرسال وفد رسمي تونسي ليُفشل كل محاولات التفاهم بين الرجلين. وطار على جناح السرعة إلى سويسرا الوزير الأول نويرة، ومعه رئيس البرلمان الصادق المقدم، ووزير الخارجية الحبيب الشطي، ووزير التخطيط منصور معلّى، ووزير التربية محمد مزالي، والأمين العام لاتحاد الشغل الحبيب عاشور، والأمين العام لاتحاد الصناعة والتجارة الفرجاني بلحاج عمار، ورفيق بورقيبة القديم البشير زرق العيون. يقول الوزير الأوّل محمد مزالي في كتابه «نصيبي من الحقيقة»: في شهر جانفي 1974، أعلمني الهادي نويرة بأن القذافي قرر الالتحاق ببورقيبة حيث يقضي أياما للاستجمام وكان قصد العقيد الليبي إقناع الرئيس بالتمسك بالاستفتاء المنصوص عليه في إعلان جربة، وتقرر أن يصحب الوزير الأول وفدا يضم الصادق المقدم رئيس مجلس الأمة، ومحمد مزالي ومنصور معلّي والفرجاني بالحاج عمار والحبيب عاشور لئلا يبقى الرئيس وحده على انفراد مع القذافي. وفي الساعة الخامسة مساء وصل القذافي إلى مقر إقامة السفير التونسي في جنيف محمد بن فضل، وهو يرتدي سترة سوداء رياضية وفاتح الرئيس بورقيبة بلا مقدمات قائلا : أنت أمضيت وثيقة تلزمك .. ويجب عليك احترام تعهداتك». وأضاف القذافي مخاطبا بورقيبة: ‹ألست أنت الذي جئت إلى طرابلس، قبل خمسة شهور، في يوم الفاتح من سبتمبر، لتقول لي: إنهم في المشرق العربي لن يصنعوا الوحدة معك، لأنهم غير جدّيين. تعالَ إلى تونس وسترى الجدّية. وسوف نصنع معاً وحدة راسخة تكون بداية لمغرب عربي كبير عاصمته القيروان؟». تابع القذافي: «وفي جربة، قبل أسبوعين، ألم تكن أنت الذي أصررت على إعلان الوحدة فوراً؟ ألم أكن أنا الذي دعوتك إلى التمهل والتدبر والتفكير؟ ألم أقترح عليك مدة شهرين كاملين لتفكّر فيهما في الأمر بكل هدوء؟! ألم تكن أنت الذي قلت خير البرّ عاجله؟! فما الذي أصابك؟!». وحاول بورقيبة -كما يروي محمد مزالي- التملص من الموضوع متعللا بصعوبات دستورية تخص تنظيم استفتاء ورد على القذافي بالقول: «إننا ما زلنا متفقين، لكننا نحتاج إلى أن نراجع دستورنا». أراد الدكتور المقدم التدخل فبادره القذافي بملاحظة نابية قائلا كنت أظن أنك دكتور في الطب لا في العلوم السياسية دخل عاشور في النقاش قائلا: هو اتفاق في القمة ولكنه يلزم الشعبين فلابد من استشارتهما، ثم بين كل واحد من الحاضرين وجهة نظره مركزا على هذه الصعوبة أو تلك، ورجع لبورقيبة وعيه ولكنه خيّر ترك كل واحد يعبر عن رأيه وحوالي السابعة والنصف مساء دعا بورقيبة الجميع لتناول العشاء فتم في جو عمت فيه الكآبة وقل أثناءه الحديث....لكن كل شيء كان يوحي بتراجع بورقيبة عن اتفاقه مع القذافي وبنهاية «حلم» الوحدة بعد ايام قليلة فقط من إعلانه... فإلى حلقة قادمة