في الضفة الشمالية للبحر الابيض المتوسط إيطاليا هي الدولة الأقرب لاجغرافيا حيث لا تبعد عنا إلا بعض العشرات من الأميال ولكن أيضا تاريخيا وحضاريا وبشريا وقد امتزج الشعبان بشكل جعلهما يتقاسمان كثيرا من مظاهر الحياة اليومية من مأكل ومشرب وعادات وتقاليد ولذلك يسوؤنا أن نرى البلد الصديق يختار لإدارة شؤونه حكومة تقوم خياراتها على الشعبوية والتطرف اليميني وما يتبعها من كراهية للآخر وغلق لأبواب التلاقي مع الشعوب الأخرى رغم اختلافاتها بل باعتبار الاختلاف مكمن ثراء ومجالا لإغناء الذات. وإذا كنا نحترم خيارات الآخرين فذلك هو جوهر الديمقراطية وكنهها فلا يمكن لنا إلا أن نعبر عن شديد القلق لهذا التحول غير الإيجابي خاصة أننا واعون بحجم الإشكاليات التي سوف تنجم عن هذا الوضع غير السليم. ولم ننتظر طويلا حتى كشرت حكومة اليمين المتطرف المتحالفة مع المناهضين للنظم المعروفةantisystème عن أنيابها في صيغة تصريحات نارية أطلقها وزير الداخلية الجديد وزعيم رابطة الشمال، الحزب اليميني المتطرف ماتيو سالفيني اتهم فيها تونس بأنها لا ترسل إلى إيطاليا إلا المجرمين وخريجي السجون مشددا على أنه سيلتقي قريبا مع نظيره التونسي ليطلب منه استعادة هؤلاء الخارجين عن القانون. وإن كان الجميع يعلم توجهات هذا الشخص وحزبه الذي يقوم برنامجه على طرد المهاجرين شرعيين كانوا أو غير نظاميين وهو ينوي إعادة نصف مليون مهاجر إلى بلدانهم فإننا لا يمكن أن نستغرب مثل هذه التصريحات التي تجانب الصواب فضلا على أن فيها تجنيا واضحا على تونس. وهو ما سارعت وزارة الشؤون الخارجية بالتعبير عنه بالاستدعاء الفوري للسفير الإيطالي وإبلاغه استنكار تونس وشجبها لما يعد على الاقل موقفا غير ودي نحو بلادنا. ولئن تراجع الوزير الإيطالي عن تصريحاته بالتأكيد أنها أخرجت من سياقها فكلامه كان واضحا لا يحتمل التأويل مما لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال. و من غرائب الصدف أن هذه التصريحات تمت في الوقت الذي وقعت فيه قبالة شواطئ جزيرة قرقنة أكبر كارثة لغرق مركب للمهاجرين غير النظاميين ذهب ضحيتها أكثر من ثمانين غريقا جلهم من التونسيين. وإن هذه الكارثة التي لم تكن الاولى ولن تكون الاخيرة تؤكد ضرورة قيام حوار جدي ودون أفكار مسبقة أو اتهامات مجانية بين بلدان المتوسط جنوبه وشماله. فالواقع أن الترف في شمال المتوسط والبؤس في جنوبه لا يمكن إلا أن يرمي بالشباب خاصة إلى ركوب المخاطر لتحسين أوضاعه وهو ما التقطته مافيات الاتجار في البشر والجريمة المنظمة لتنظيم رحلات الموت غيرعابئة بمصير هؤلاء المغامرين بحياتهم وطالما تواصلت مثل هذه الظروف فلا شيء يمكن أن يوقف هذا النزيف إلا حوار متكافئ للبحث عن الحلول الواقعية بعيدا عن منطق التهديد والوعيد والتصريحات النارية التي لا طائل من ورائها. إن الدول الأوروبية اعتمدت لحد الآن الحلول الأمنية ووسائل سد الأبواب امام الهجرة بفرض التأشيرات ولكنها حلول ووسائل أثبتت الايام عدم فعاليتها. والشعوب ذاتها باختيارها القوى السياسية اليمينية المتطرفة التي تنزع إلى نفس هذه التوجهات أسهمت هي ذاتها في تكريس هذه المعضلة عوض السعي الى حلها وهو ما يؤكد عدم اهلية الطبقة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني على إيجاد البديل لهذه السياسات الخرقاء. ومن المفارقات أن هذه السياسات مكلفة ماليا لدول الاتحاد الاوربي ولإيطاليا على وجه الخصوص فقد بلغت الميزانية التي خصصها هذا البلد لإسعاف القادمين من البحر ولمراكز الإيواء المخصصة لهم ما يزيد على خمسة مليارات يورو أي ما يقارب 15 مليار دينار تونسي وهو ما يساوي تقريبا 15% من الناتج الداخلي الخام لبلادنا وحوالي نصف ميزانية الدولة التونسية لسنة كاملة وهي كمية هامة من الاموال كان يمكن استثمارها في بلدان المهاجرين ومن بينها تونس من خلال تمويل مشاريع تبقي الشباب في بلدانهم وتمكنهم من ظروف عيش كريمة. هذه الاموال ساهمت حسبما يبدو في إحياء مدن وقرى في جزيرة صقلية كانت في طريقها الى الاندثار ويمكن إذا أحسنا استعمالها أن تساهم في استقطاب مهاجرين نظاميين لتطوير مناطق كبرى في اوروبا ذاتها. لكن لا يجب ان ننسى أن ما نعيشه اليوم من هجرة غير نظامية من جنوب المتوسط نحو شماله كانت تتم في اواسط القرن الماضي أي منذ سبعين سنة فقط في الطريق المعاكس من الشمال إلى الجنوب أي من صقلية المتخلفة آنذاك والتي يعيش أهلها الفقر والخصاصة واحيانا المجاعة والبؤس نحو الشواطئ التونسية في الوطن القبلي اساسا التي كانت احسن حالا. وقد استقبلت بلادنا الآلاف من المهاجرين الصقليين اسهموا في تطوير الفلاحة بإدخال زراعات جديدة مثل الطماطم وكروم العنب وغيرها كثير وكذلك في تعصير طرق صيد الاسماك. في كل الحالات فمنطق وزير الداخلية الإيطالي الجديد لا يمكن قبوله بأي حال وإذا رغب في القدوم إلى تونس دون ان يتعلم طرق التعامل الدبلوماسي مع بلادنا فلا أهلا به ولا سهلا. هذا لا يجب ان يمنع رغم ذلك ان نسعى الى إقامة علاقات طيبة ولكن متوازنة مع الشريك الإيطالي الذي لا يجب ان ينسى انه اضحى منذ سنة أول مزود تجاري لبلادنا متقدما على فرنسا وبفائض هام لفائدته. وهذه معطيات تغني عن أي كلام.