بعد انهيار اتفاق الوحدة في جربة «انفجرت» العلاقة بين تونس وليبيا بشكل غير مسبوق. وتحوّلت إلى صراع لا يتوقف، كان فيه الخلاف جليّا في الخطاب والإيديولوجيا وحيال مختلف القضايا الجوهرية. ومرت هذه العلاقة بمراحل كثيرة مختلفة وبمواقف متقلبة كان فيها الصدام عنوان المرحلة التي شهدت «هزات» عنيفة تخللتها أحداث عنف كانت كثيرا ما توجه فيها أصابع الاتهام الى القذافي بالوقوف وراءها. فرغبة العقيد الليبي في الوحدة وخطاباته الداعية الى الزحف على الحدود وإعلان الوحدة الفورية واعتماد الكتاب الأخضر منهج حكم ونظام اللجان الثورية... كلها كانت «عناصر» أزعجت بورقيبة ووزراءه وجعلت من نظام العقيد الليبي هاجسا أمنيا لتونس... حتى في لحظات الود!. وازداد هذا الهاجس الأمني حدّة في بداية عام 1984، خاصة بعد تسلل مجموعة مسلحة عبر الحدود التونسية الليبية وتفجير خط أنابيب مما «أشعل» الخلاف بين السلطات التونسية ونظيرتها الليبية وفي المقابل سارعت الى إنكار ضلوعها في هذه الحادثة. واتهمت مدير الأمن والمخابرات وكاتب الدولة التونسي الأسبق للدفاع في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة بالوقوف وراء هذا التخريب لمنع أي إمكانية تقارب بين السلطات الليبية ونظيرتها التونسية بحسب السفير الليبي في تونس جمعة الفزاني. لكن هذه الواقعة لم تكن الأخيرة. فبعدها بأسابيع قليلة (مارس1984)، ألقي القبض على ليبيين كانوا بصدد نقل أسلحة حربية وذلك عند إجراء مراقبة روتينية قرب قرمبالية. 10 سنوات بعد إعلان «دولة الوحدة» التي لم «تعمّر» بين بورقيبة و«معمّر» لاحظ العقيد الليبي أن العلاقات العربية مازالت تراوح مكانها. بل «إن بعضها لم يزد إلا تكهربا وتنافرا»، كما قال ذلك بنفسه في رسالة بعث بها إلى رؤساء الدول العربية يدعوهم فيها بوجه خاص إلى إنشاء اتحاد بين الدول العربية. قرّر القذافي أن يستأنف «رحلته» التي لا تكاد تنتهي بحثا عن «بدائل وحدوية»، من خلال محاولة تذكير القادة العرب بأهمية الاتحاد لمجابهة الأخطار التي تهدد الأمة العربية إذا ما استمرت في تشتتها وفرقتها. وكان الحسن الثاني من بين القادة العرب الذين تلقوا رسالة العقيد القذافي وقد حملها له مبعوث ليبي يوم 13 جويلية 1984 وهو في مدينة الدار البيضاء. لقد شرح القذافي في هذه الرسالة الهدف من زيارته الى البلدان العربية. وكتب يقول: «كنت أرمي من وراء هذه الزيارات الى أن أشارك بقدرتي في تحسين الأوضاع العربية وتنقية الأجواء حتى لا يفوتنا الزمان وحتى لا نجد أنفسنا أمام إقبار المصير العربي». وقد أطلع الحسن الثاني الشعب المغربي على فحوى رسالة القذافي عندما تلاها بنفسه في خطابه، يوم الاحتفال السنوي بذكرى ثورة الملك والشعب. وفي هذه الرسالة، يتحدث القذافي قائلا: «أرى أن الأجواء العربية لم تزدد إلا تكهربا والعلاقات الثنائية بين بعض الدول العربية زادت تنافرا. وأمام هذه الحالة فأنا عندي أزمة ضمير ويجب على كل دولة عربية أن تتحمل مسؤولياتها أمام هذا الأمر الواقع». قرأ الملك الحسن الثاني الرسالة . وبصورة مفاجئة يعلن لمبعوث القذافي، وهو لا يصدق ما يسمع، استجابته الفورية لنداء الوحدة». بل يقترح إبرام معاهدة اتحاد بين البلدين، وحتى القذافي، عندما أبلغه مبعوثه اقتراح الحسن الثاني، لم يصدق ما سمعت أذنه. وأبدى استغرابه ودهشته من أن ملكا يكون أول من استجاب لندائه الوحدوي. بعد أيام قليلة تحوّل هذا «النداء الوحدوي»، الى واقع تم بموجبه الإعلان عن الاتحاد المغربي الليبي بمدينة «وجدة» المغربية في 13 أوت من العام نفسه...وكان الأمر مفاجئا وكان السؤال الذي يتردّد بإلحاح: كيف يمكن أن تتحقق الوحدة بين قائدين هما على طرفي نقيض وكان يرفض كل منهما أن يكون ظلاً للآخر. فاللقاء الأول بين القذافي والملك المغربي الراحل الحسن الثاني في القمة العربية سنة 1969، كان متوتراً جدا، بعدما وصف العقيد الليبي مشهد تقبيل أحد أعضاء الوفد المغربي يد الملك ب «الحنين إلى العبودية». ووصل الأمر به إلى اتهام وزير الدفاع والداخلية في المغرب محمد أوفقير بأنه «قاتل»، فضلاً على إعلان دعمه للانقلاب العسكري على الملك المغربي سنة 1971، وتأييده ل»الضبّاط الأحرار»، واقتراحه على الجزائر إرسال طائرات عبر الأجواء الجزائرية لدعمهم!. ويقول الحسن الثاني ردّا على هذا السؤال قائلا: «كان على الدولة المغربية أن تبحث عن الأوكسيجين الذي ينفعها ولو على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر. فكانت معاهدة الاتحاد مع ليبيا. وقد جاءت في موعدها». لكن محمد مزالي رأى في شهادته أن الحسن الثاني «كان يأمل من خلال اتفاقه مع القذافي، في وضع حد للإعانة المالية والعسكرية واللوجستية التي كان يقدمها العقيد القذافي بسخاء ل«البوليساريو» الذي لا يعترف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية». ويضيف «هاتفني الحسن الثاني في اليوم نفسه على الساعة الثانية ظهرا ليخبرني بإمضاء هذه المعاهدة ويطالبني بإعلام الرئيس بورقيبة قبل أن تبث وسائل الإعلام النبأ. وطلب مني أيضا المساعدة حتى يستقبل بورقيبة القذافي وهو في طريق العودة إلى ليبيا. ولكن بورقيبة رفض استقباله رفضا باتا». ويتابع مزالي:» تلافيا لحدوث مشكل دبلوماسي آخر حوّلنا طائرة العقيد إلى مطار تونس. واستقبلته أنا والباجي قايد السبسي وزير الخارجية آنذاك. وقدمت له اعتذار بورقيبة بداعي أنه «مرهق». ولكن القذافي واصل طريقه برا في اتجاه المنستير وبذلت جهدا كبيرا حتى أتلافى القطيعة ولكن دون جدوى». بعد تردد طويل قام مزالي بقطع العلاقة مع ليبيا، وسط أنباء عن عمل تخريبي بالمتفجرات وقع في نزل بجربة، ومحطة بنزين في جرجيس في شرقي الجنوب التونسي. لكن «مزالي» يشير إلى أن الخلافات والأحداث «العاصفة» التي هزّت العلاقات التونسية-الليبية في عهد بورقيبة والقذافي، كانت دوافعها أيضًا الصراعات الداخلية في تونس، حين كشف أن طرد القذافي للعمالة التونسية من ليبيا جاء أيضًا بناء على طلب من «وسيلة بورقيبة» الطامحة والطامعة في وراثة زوجها. والى حلقة قادمة