مرّة أخرى تعود الحياة الوطنيّة الى مربّع الاستقطاب الثنائي. وهو استقطاب حمّال لانتظارات سلبيَّة دونما شكّ وسط تمترس طرفيه بشكل حدّي قاطع. إنّ وضعيّة الانقسام التي انتهت إليها العلاقة بين مختلف الأطراف الوطنية غداة تعليق مسار وثيقة قرطاج 2 ما فتئت تتعقّد وتزدادُ تشابكا ملقية بظلالها الضبابيّة على مستقبل الاستقرار العام في البلاد. ومن المؤسف فعلا أن تتّفق الأطراف الوطنية حول 63 نقطة كاملة تهم مجالات حيويّة وعلى غاية من الأهميّة في جهد الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي، في حين تذهبُ بها نقطة وحيدة (النقطة 64 من وثيقة قرطاج 2) الى حالة من الارتباك والتنازع وتبادل الاتهامات ولاحقا إلى أجواء من التحشيد والشحن استعاد فيها البعض خطابات الحرب الطاحنة ونوايا لزعزعة سياسة التوافق التي أنقذت البلاد من مطبّات عديدة. وراكمت مكاسب مهمّة في مسار تثبيت مستلزمات الانتقال الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة وتأمين قدر كبير من التهدئة والاستقرار العام في البلاد. يعيش التونسيّون اليوم على وقع استقطاب حاد جدّا بين رؤيتين اثنتين لا ثالثة لهما. الأولى متمسّكة بمقولة الاستقرار الحكومي ورفض إجراء تحوير وزاري عميق. والثانية على نقيض الأولى تماما تدعو الى الإطاحة بكامل الفريق الحكومي الحالي. ما الحل؟ هل انغلقت العقول واستحكمت الإرادات عن إيجاد منطقة التقاء بين الطرفين؟ وهل المواقف الحديّة القاطعة يُمكن أن توفّر مُخرجات آمنة للوضع القائم؟ أبدا، وقد عوّدتنا النخبة الوطنيّة منذ الثورة على قدرات عجيبة على استنباط المبادرات والتصوّرات للخروج من الأزمات الخانقة. وقد عرفت بلادنا خلال السنوات الفارطة الكثير من مثل تلك الأزمات التي يقف فيها شركاء الوطن والثورة والانتقال الديمقراطي موقف الأعداء المتنافرين الذين يجهّز كلّ واحد فيهم جميع ما هو متاح من أدوات وأساليب لإيقاع الهزيمة لدى الجانب المقابل بما في ذلك خطابات التصعيد ونشر الإشاعات وإشعال الحرائق وبثّ الفتن وحبك المؤامرات. إنّ الاختلاف لا يجب أن يُفْسِد الودّ دونما شكّ ولا يجب أن يذهب بطرفي النزاع الى حدّ القطيعة التامة أو الصدام لا قدّر الله. كما أنّ شيم الوطنيّة والمسؤوليّة وخصال الشجاعة والجرأة التي عهدها التونسيّون في الكثير من الشخصيات الوطنيّة ومن السياسيّين والقيادات النقابيّة ورجال الدولة الحكماء، لن تقبل بمزيد تدهور الأزمة السياسيّة الماثلة. من حقّ كلّ طرف أن يتمسّك برؤيته وأن يُدافع عنها. ولكن والحالة على ما هي عليه من خصام واستقطاب فإنّه من الخطإ الجسيم، إن لم يكن القاتل، أن يعتقد البعض أنّه يمتلك الحقيقة لوحده. فالحقيقة نسبيّة. وقد يمتلك كلّ طرف جزءا منها. كما أنّه قد يكون من باب المجازفة أو المغامرة أن يستعيض البعض عن تجارب ناجحة بتجارب يلفّها الكثير من الالتباس والغموض وربّما سوء التقدير لوضع وطني ما يزال هشّا ولمسار انتقالي ما يزال لم يستكمل بعدُ جميع أركانه ومستلزماته ولوضع إقليمي ودولي فاقد للاستقرار مائل الى مزيد التحرّك والاضطراب معبّأ بالكثير من المحاذير والمخاوف. قد لا يُحاسبُ السياسيّون الهواة أو المغامرون والانتهازيّون عن خياراتهم ومواقفهم. ولكنّ العقلاء والحكماء سيكونون في موضع محاسبة عسير جدا، آجلا وعاجلا، لأنّهم أحجموا عن إيقاف نزيف الأزمة وعودة الاستقطاب الحاد. ورفضوا الإذعان لتنازلات لازمة عاجلة لإعادة الوئام وأجواء التفاهم وحماية الوحدة الوطنيّة وتأمين استكمال مسار الثورة والانتقال الديمقراطي وتهيئة البلاد الى استحقاقات سياسيّة كبرى قادمة واستحقاقات اجتماعية واقتصادية لم تعد تقبلُ التأخير أو التأجيل.