أكدّت الدكتورة زهية جويرو أن مشروع لجنة الحقوق والحريات الذي قدّمته اللجنة المكلّفة لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي لا يتناقض مع الدستور. الدكتورة زهية جويرو من أبرز الباحثات التونسيات اللاتي تخصصن في الحضارة العربية. وساهمت خلال سنوات في تجديد قراءات الفكر الديني. في هذا الحوار تتحدث زهية جويرو عن مشروع الحريات والمساواة الذي يثير منذ أيام الكثير من الجدل . كيف ترين الإقدام على اقتراح مشروع قانون كهذا في هذه المرحلة التي يحتدم فيها الجدل حول «الهوية» وترتفع فيها أصوات الأصوليين الذين لهم مواقع في الحكم؟ بصرف النظر عن «هويّة» من يحكم حاليا السياسية وعن مرجعيته، أعتقد أن أي مشروع لإعادة النظر في القوانين أمر يحتكم أولا وأساسا إلى الدستور التونسي لا إلى من يتولى الحكم . فالدستور هو المعبّر أولا وأخيرا عن إرادة الشعب. وبما أن الدستور التونسي أقرّ مبدأ المساواة بين جميع المواطنين بوصفه مبدأ دستوريا أساسيا، مثلما أقر جملة من الحقوق والحريات ومن بينها على سبيل المثال حرية الضمير فإني لا أرى مانعا قانونيا يمنع أن تتقدم لجنة الحريات الفردية والمساواة بما تقدمت به من مشاريع القوانين لعرضها على من له النظر، خاصة أن هذه المشاريع جاءت في الأصل لتلائم بين المبادئ الدستورية والدستور عامة بوصفه المرجع القانوني الأعلى والقوانين الإجرائية المختصة حتى لا يكون هناك تعارض بينها وبين الدستور. ولم أر في ما اطلعت عليه من اقتراحات اللجنة المذكورة إلا ما ينسجم مع هذا التوجه. لذلك لا أرى في اعتراضات المعترضين وجها قانونيا من جهة. بل إن ما أراه في هذه الاعتراضات هو الدليل على أن أكثر المعترضين لم يطلعوا تماما على المشروع وما فيه من اقتراحات وإنما بنوا اعتراضاتهم على لغط وإشاعات لا تعكس بالمرة حقيقة مضمون تلك المقترحات. ولا أرى أن قوانين بمثل هذه الأهمية يمكن أن يبنى الموقف منها على اللغط والإشاعات والأحكام المسبقة أو على الموقف الشخصي من الأفراد الذين يشكلون اللجنة، لعدة اعتبارات من بينها على الخصوص أن اللجنة لم تقدم تقريرها النهائي إلا بعد أن استشارت عددا كبيرا ممن لهم النظر والكفاءة للإدلاء بآراهم في المقترحات.ومن ثمة فهي ليست مقترحات أعضاء اللجنة وحدهم. بل هي أيضا مقترحات تشاركهم في الاقتناع بها أطراف عديدة من القوى الحية والكفاءات الوطنية. ولذلك أدعو كافة المواطنين إلى الاطلاع الحقيقي والدقيق والشخصي على هذه المقترحات قبل الحكم عليها وقبل الأخذ بما يشاع عنها من أحكام مسبقة وغير موضوعية، هذا من جهة. هناك من اعتبر تقديم هذا المشروع «ليس في وقته» وفيه «استفزاز يمكن أن يثير ردود فعل عكسية؟ أما من جهة التوقيت وما بني عليه من اعتراضات فإنني من حيث المبدأ لا أعتبر أن إقرار الحقوق والحريات مسألة مقيدة بوقت بعينه. بل أعتبره مطلبا جوهريا يعلو على المناسبات. والدليل على ذلك أن الدستور التونسي الذي حظي بموافقة الشعب وممثليه جميعهم ينص هو الآخر على المبادئ التي اشتقت منها هذه المقترحات فضلا على ذلك أذكر بأن مجلة الأحوال الشخصية التونسية صدرت في نسختها الأولى في 13 أوت 1956 قبل صدور أول دستور لتونس المستقلة قد احتوت على قوانين «ثورية» حقيقة وهي أكثر تجذرا وثورية في مجالات عدة من مقترحات اللجنة اليوم. فهل كانت الظروف التاريخية التي صدرت فيها مناسبة أكثر من الظروف الحالية؟ وهل كانت قضايا الهوية بالنسبة إلى بلد لم يمض على استقلاله أكثر من بضعة أشعر غير مطروحة آنذاك كما هي مطروحة اليوم؟ وهل هذه الهوية اليوم مهددة أكثر مما كانت عليه في تلك اللحظة التاريخية؟ لا أعتقد ذلك . ولهذا أرى أن التحجّج بمخاطر تهدد الهوية مبني على وهم وعلى تعلّات غير موضوعية بالمرة. فالهوية العربية والإسلامية لم تمنع في لحظات تاريخية عديدة سابقة دون أن تخط تونس لنفسها مسارا خاصا في مجال الإصلاحات القانونية الرامية إلى إقرار مبادئ الحقوق والحريات والعدالة والمساواة والإنصاف ، فضلا على مبدإعلوية القانون. لذلك أعتبر أن عمل هذه اللجنة مندرج في هذا المسار وهو من هذا الجاني أكثر تمثيلا لخصوصية الهوية التونسية مما يشاع من لغط حول كونها تهدد الهوية أو تتعارض معها. إن من يشيعون هذا اللغط مرجعيتهم ليست تونسية. مرجعيتهم قائمة في الفكر الإخواني والأصولي المتطرف الذي أعتبره دخيلا على تونس. ولا مكان له فيها. وهي التي أرسى فقهاؤها منذ قرون مبادئ الاعتدال والوسطية واعتمدوا الاجتهاد للملاءمة بين الأحكام الشرعية والتحولات المجتمعية. ثم واصل أعلام الإصلاح فيها ومفكروها النهج نفسه في الفترة الحديثة والمعاصرة فكان أن أنتج هذا الجهد منظومة قانونية متطورة رسخت مبادئ الحقوق والحريات والمساواة في الوعي والضمير التونسيين. لذلك أدعو هؤلاء الذين يشيعون خطابا معاديا لهذه المبادئ إلى أن يقرؤوا تاريخ تونس بموضوعية وبعيدا عن الموجهات الخارجية التي لا مكان لها عندنا. كما أدعوهم إلى الكف عن استخدام السلطة لخدمة مشروع هم يعرفون قبل غيرهم أنه لا يمثل التونسيين ولا طبيعة المجتمع التونسي ولا حقيقة تطلعات التونسيين. كما أجدد الدعوة إلى الاطلاع الشخصي على المشروع بكل ما فيه وإلى الكف عن التعميم. ففي هذا المشروع مقترحات كثيرة ولا يمكن أن نسلط عليها جميعها الحكم نفسه. فقد يكون فيه ما يمكن أن نوسع فيه النظر وأن نفكر فيه أكثر بمزيد من الموضوعية ومن التركيز بحثا عن الأفضل والأجدى. أما وضع كل شيء في كيس واحد وإطلاق الأحكام العامة عليه فهذا لا يقبل وخاصة ممن يعتبرون أنفسهم نخبا أو قادة رأي أو زعماء. فمثل هذه المواقع من المفروض أن تجعلهم أكثر تحفظا وأعمق شعورا بالمسؤولية التي يفترض أن تمنعهم عن الانجرار وراء إشاعات ولغط يصدران عن جهات لا تملك الأدوات المناسبة للدراسة الموضوعية والعلمية.