«يعد الميداني بن صالح أحد رواد القصيدة الحديثة في تونس كتابة ونشرا إذ كانت مجموعة «قرط أمي « المنشور منتصف الستينات أول مجموعة من الشعر الحر تنشر في تونس. كما أنه يعد من العلامات الفارقة في مسيرة الشعر التونسي الحديث إذ أنه أسس بشعره للنص الملتزم بقضايا العمال والفلاحين انسجاما مع قناعاته الفكرية والأيديولوجية. والميداني بن صالح إضافة الى ما ذكر كان رائدا أيضا في نضاله من أجل تأسيس المنظمات والجمعيات المدافعة عن الحقوق والحريات. فهو من مؤسسي اتحاد الكتاب التونسيين سنة 1971 والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان سنة 1977 وقد تولى في كلا المنظمتين المسؤولية طيلة فترات مهمة من الزمن.» هكذا استهل صديقنا العزيز الأستاذ الشاعر محمد الهاشمي بلوزة تقديمه للأعمال الشعرية الكاملة للميداني بن صالح التي صدرت مؤخرا في تعاون محمود بين وزارة الشؤون الثقافية واتحاد الكتاب التونسيين. الميداني بن صالح الذي بدأت معرفتنا بشعره وبه ونحن تلاميذ في أواخر الستينات من خلال ديوانه الأول «قرط أمي» أصبح بالنسبة لنا ولغيرنا منذ ذلك الوقت علامة مميزة في المشهد الثقافي التونسي شاعرا وإنسانا. فقصائده كما يقول رئيس اتحاد الكتاب التونسيين الشاعر صلاح الدين الحمادي « قد فتحت له مجالا في قلوب الناس الذين كانوا مدار إبداعه الشعري فضلا عما تميزت به شخصيته الكاريزمية من خصال قل أن تجتمع لدى شاعر». فقد عرف الراحل بشجاعة تصل أحيانا حد التهور وبحكمة مقترنة بدهاء ساعده على إدارة اتحاد الكتاب لأكثر من ثلاث عشرة سنة، كما عرف بطيبته وبكرمه سواء مع الكتاب أو مع عامة الناس. ونعود لهذه الأعمال الكاملة لنشترك مع الأستاذ الهاشمي بلوزة في ما ذهب اليه من أن التجربة الشعرية للميداني بن صالح يمكن فعلا وضعها تحت عناوين ثلاثة تمثل مراحل متباينة من الكتابة هي: المرحلة الوجدانية والذاتية وقد ضمنها الراحل أغلب قصائد «قرط أمي» و «من مذكرات خماس» و» الليل والطريق» والمرحلة الواقعية وتضم مجموعات «زلزال في تل أبيب» والوحام» و»الأقنعة» وأخيرا المرحلة الوجودية أو التصوفية وقد تجلت في مجموعات « أقباس في كهف الظلمة» و» في رحاب المتولي». وفي رأينا إن كان الميداني وهو من الجيل الثاني من شعراء تونس بعد الاستقلال قد أنزل القصيدة التونسية من عرشها الذاتي والرومانسي لتعانق هموم الكادحين من عمال وخماسة ومهمشين .. فهو كذلك صاحب الانتماء العربي الصادق الذي ظل يلازمه طيلة حياته. ومن خصاله أيضا أنه لم يتوان لحظة واحدة عن الدفاع عن قضايا الأمة وهموم مبدعيها عبر كافة المسؤوليات التي تقلدها وفي كل فضاءات الحياة العامة. يضاف الى ذلك حرصه على نقاء المبدع ونظافة اليد والزهد في المغانم والاغراءات التي كان يمكن أن ينالها من خلال المواقع التي شغلها وميزات شخصيته التي قربته من أصحاب القرار في أعلى مستوياتهم. وهنا يضيف الأستاذ الهاشمي بلوزة الذي رافق دربه لسنوات طوال «كان فيلسوفا وجوديا في سيرته وحياته امتزج لديه التجلي المطلق الى درجة الانفلات من الواقع والإفلات من قيوده خاصة كلما تعلق الأمر بممارسة حرية التفكير والتمرد على قيود الفكر الجامد والنظرة المحنطة للأشياء بالالتزام الكامل بقضايا الفئات المهمشة في الوطن بل بقضايا الوطن بما هو رقعة جغرافية محددة في تونس وبقضايا الأمة العربية بصفة أشمل». طبعا هذه المقدمات لن تفي هذا الإنجاز حظه وشعر الميداني بن صالح أكبر من أن تحتويه هذه الاطلالة أردنا فقط أن نحيي اتحاد الكتاب ونشكر وزارة الشؤون الثقافية على دعمها لهذا المنجز الذي نتمنى أن يتواصل مع زملاء الميداني من مبدعي تونس الذين لم تجمع أعمالهم على غرار المرحوم محمد صالح الجابري وغيره... علما وأن شعر الميداني وجيله لم يدخل بعد الجامعة التونسية ولم ينل من الاهتمام الذي يجب أن يناله من قبل النقاد والأكاديميين. ونرجو أن يتكفل نجل الراحل العزيز الأستاذ نزار بن صالح بجمع بقية أعمال والده المنثورة المطبوعة والمخطوطة حتى تكتمل صورة رمز من رموز الأدب التونسي الحديث.