بقلم محمد رؤوف يعيش (المدير الأسبق للإذاعة التونسية) غيّب الموت يوم 13 ماي 2018 المفكّر التونسي الكبير كمال عمران، وأقيمت له أربعينية تليق بمقامه يوم 25 جوان الجاري بمدينة الثقافة – تونس. وتعود معرفتي بالمغفور له إلى أوائل الثمانينات في رحاب دار الإذاعة والتلفزة التونسية، حيث كنت وقتها مشرفا على قطاع الأخبار التلفزية وأصادفه في الأروقة المؤدية إلى الأستوديوهات الإذاعية، مع زميليه المنصف الجزّار والباجي القمّرتي. فنتبادل التحايا... وقد شكّلوا ثالوثا اهتمّ بإلقاء المحاضرات عن أدباء الباكالوريا في دور الثقافة المنتشرة في ربوع البلاد لفائدة تلاميذ الأقسام النهائية، وبنشاطهم هذا لفتوا نظر المسؤولين في الإذاعة، فتمّت دعوتهم إلى إنتاج حصة "المدرسة المفتوحة". ومن هنا كانت الانطلاقة لكمال عمران والمنصف الجزّار في العمل الإذاعي.. وقد أصبحا متلازمين في إعداد وتقديم البرامج الإذاعية، وتكوّنت لديهما منهجية "خاصة" بهمَا في التقديم، مِنْ أبرز سماتها التكامُلُ عند طرح القضايا المتناولة ومُناقشتها، بعيدًا عن الرتابة والتكرار والاجترار. وبمرور السنوات، توطّدتْ علاقتي بالمُنعَّمْ المبرور، خُصُوصًا بمناسبة تعييني في سنة 1988 (إثر مغادرتي لقطاع الأخبار)، نائبًا لمدير الإذاعة، ومسؤولاً عن البرامج. عندَها اقتربت من الفقيد كمال عمران واكتشفتُ خصاله الإنسانية الرفيعة، مثل التواضع والتحلّي بالأخلاق الفاضلة والبشاشة، ورحابة الصدر والإيمان بالحوار . ولاحظت شغفه الكبير بالعمل الإذاعي، وأدركت ثقافته الموسوعية في مجالات الفكر والحضارة العربية والإسلامية والأدب والشعر وسائر الفنون. كما انبهرت بقدرته الفائقة على الارتجال الإيجابي، وإجادة الحديث في مختلف المواضيع التي يتطرّق إليها بأسلوبه الجذّاب وطريقته المتفرّدة في التبليغ والتواصل، على نحوٍ يجعل كلامه ينساب انسيابا، يشدّ إليه المستمعين إلى درجة الإعجاب الشديد بسعة معارفه وغزارة معلوماته وفصاحة لسانه. ولعلّه من حسن حظّي، أنّ صِلاتي بالأستاذ الرّاحل ازدادت متانة ووثوقا، وآلت إلى مستوى الصداقة الحقيقية، وذلك بمجرّد تسميتي في مطلع التسعينات مديرًا للإذاعة الوطنية، مع الإشراف على إذاعة تونس الدولية. وكان رحمه الله يزورني بانتظام في مكتبي، ويعرضُ عليّ شخصيّا، قبيل انطلاق الشبكات البرامجية، ودون المرور بالمصالح المعنيّة، مشاريع الحصص التي ينوي تقديمها في الإذاعة. وبالرجوع اليوم إلى خزينة الوثائق الصوتية، أستحضر البعض من عناوين برامجه : البداية كانت إذن بالمدرسة المفتوحة، ثمّ تطوّرت الحصّة وتغيّرت شكلا ومضمونًا إلى الروافد، فالمناهل... وتطالعنا أيضا هذه العناوين : أعلام معاصرون، حوارية المفاهيم، سراج المعارف. وكانت له مشاركات متميّزة في الحصّة اليومية "كتاب على الأثير" التي تداولت عليها نخبة من أفضل الجامعيين والمثقفين. وأذكر أنه فاجأني باقتراح حصّة أسبوعية موجّهة إلى الأطفال تحمل عنوان : معاني الكلام يُعدّها في شكلٍ مسرحي، وتعهّدت مصلحة التمثيل بإخراجها. وكان إلى جانب ذلك كثيرًا ما ينزل ضيفًا على المنوّعات المباشرة التي يقدّمها المنشّطون، أو على البرامج المسجّلة، مثل سهرات لا تُنسى، وغيرها.. والمهم، أنّ الفقيد كان مواظبًا على الإنتاج الإذاعي، حريصًا على أن يكون دائمَ الحضور في مُختلف الشبكات البرامجية المتعاقية على مدار السنة. وكانت له دراية عميقة في تطويع إنتاجاته مع خصوصيات المواسم التي توضع فيها تلك الشبكات : يُعِدّ للصيف حصصا خفيفة وطريفة لا تثقل كامل المستمعين، ولشهر رمضان حلقات ذات طابع دينيّ حضاري منوّع. ولم يقتصر على هذا المنحى فحسب، بل تراه يستعدّ أتمّ الاستعداد للأحداث والتظاهرات الثقافية الكبرى التي تنتظم في البلاد ويبادر إلى الاسهام فيها بمشاريع إذاعية مناسباتية. ولا شكّ في أنّ الخبرة الإذاعية الواسعة التي اكتسبها الفقيد، أهّلته لأن يُعيّن خلال شهر أوت 2001 مديرًا عامّا للقنوات الإذاعية. وصادف وقتها أن غادرت إدارة الإذاعة، بعد قضاء ما يناهز الإحدى عشرة سنة على رأسها، والتحقتُ في خطة مستشار لدى رئاسة مؤسسة الإذاعة والتلفزة. وكنّا متجاورين في المكاتب، وقد ظلّ يستطلعُني الرأي في الكثير من المسائل المتعلّقة بسيْر العمل الإذاعي مركزيّا وجهويا ولم أبخل عليه بالنصح بشأن ما يطلبه منّي. وتقديري أنّ من عوامل نجاحه في الإشراف على الإدارة العامة للقنوات الإذاعية : هو توظيف تجربته الرائدة في الحقل الإذاعي أحسن توظيف، ونسيج العلاقات الطيّبة التي ربطته مع أغلب الأسلاك المهنية في الإذاعة. وللتذكير عيّن الدكتور كمال عمران إثر تحمّل هذه المسؤولية العليا مستشارًا لدى وزير التعليم العالي والبحث العلمي، ولدى وزير التربية والتكوين، مع تسجيل تقلّص في التعاطي الإذاعي المعهود. ثمّ جاءت المحطّة الأبرز في مسيرته المهنية الإعلامية وأعني بها تأسيس إذاعة الزيتونة يوم 13 سبتمبر 2007، حيث كان له الفضل في تركيزها على قواعد صحيحة، وبذل قصارى جهده لتطويرها تدريجيّا، مع إنتاج دفعة من البرامج القيّمة فيها. إلى أن سمّي في أواخر ديسمبر 2010 وزيرًا للشؤون الدينية. وتمضي الأعوام، وبعد غياب قصير نسبيا، يسجّل الراحل عودته القويّة من جديد إلى الإنتاج السمعي البصري، ولكن هذه المرّة يدخل غمار البرامج التلفزية من خلال إبداعه في إعداد وتقديم الحصص الدينية والحضارية صلب الفضائيات الخاصّة, وبالتوازي مع ذلك، أرسى تعاونا مثمرا مع الإذاعة التي حلم بها وناضل من أجل إنشائها قبل سنوات، وهي إذاعة تونس الثقافية. وفي أحد مواسم الشهر الفضيل أتحفها ببرنامج "في ثقافة رمضان". وبداية من عام 2014، اقترح على مستمعيها برنامج "لمع من الحضارة التونسية" ومازال هذا البرنامج يبثّ إلى اليوم، بفضل عدد من الحلقات التي سجّلها قبل وفاته. هذه أضواء خاطفة على شخصية كمال عمران الإذاعي، حاولت تسليطها في هذه اللمحة المختصرة، وسيظلّ رحمه الله من أبرز الوجوه الإذاعية والتلفزية التي طبعت المشهد الإعلامي السمعي البصري الوطني، وعلَمًا كبيرًا تفتخر به تونس وتعتزّ ، ويحتلّ مكانة "جليلة" في العالم العربي والإسلامي.