وأنت تقرأُ الوضع التونسي، هناك شيء واقعي أقرب الى الحقيقة المطلقة التي ليس بإمكان أحد إنكارها أو القفز عليها وتناسيها. هذه الحقيقة مفادُها الأزمة السياسيّة المستفحلة منذ ما يزيد على أربعة أشهر تهدِّد بصفة فعليّة التجربة التونسيّة في الثورة والانتقال الديمقراطي. فالضغوطات تنضافُ يوما بعد يوم ويرتفع منسوب القلق والحيرة في وقت ما تزال فيه تلك التجربة الرائدة هشّة مهزوزة لم تستكمل بعدُ جميع أركانها لبلوغ شاطئ الأمان وتثبيت أسس الاجتماع السياسي الدائم والمستقر. بناء مؤسّساتي لم يكتمل، أين هي المحكمة الدستوريّة؟ وأين هي الهيئات المستقلّة الدائمة؟ وأين هي المصالحة الوطنية الشاملة ومن سيضمن تحقّقها في ظل واقع العطالة والعطب الَّذِي أصاب هيئة الحقيقة والكرامة؟ استحقاقات شعبية ما تزال بعيدة المنال، أين هي الاستحقاقات الاجتماعية والتنمويّة التي قامت الثورة من أجلها؟ وأين هو التشغيل وتحسين ظروف عيش المواطنين؟ وفي ظل حالة الصمت والركود الراهنة ستزداد الأزمة حدّة وتعقيدا. وستتعمّق المخاوف والمحاذير، خاصّة أنّها، أي الأزمة، أصبحت ذات أبعاد خطيرة حينما كشف رئيس الحكومة نفسه أنّ شظايا الخلاف داخل نداء تونس، الحزب الحاكم، قد بلغت أركان الدولة ممّا بات يُؤشّر الى سيناريوهات مفزعة تهدِّد تماسك أجهزة الدولة ومن ثمّ استقرار الوضع العام في البلاد. ولكن من الثابت أنّ نزع فتيل الأزمة الراهن ممكنٌ. وباستطاعة النخبة ابتكار مخارج آمنة وإنهاء حالة الاستقطاب وتحقيق توافقات جديدة تذهب بالبلاد الى الآفاق الإيجابية وتمنحُ تجربة الانتقال الديمقراطي مساحات لاستكمال ما بقي من لبناتها. فالعودة إلى الحوار وإعادة تنشيط «سياسة التوافق» لازمان وبشكل عاجل. ومن باب المغامرة أن يعتقد البعض أنّه بإمكانه إنقاذ الوضع منفردا أو أن يظنّ بإمكانية تحقيق مكاسب في واقع مأزوم. وفي هذا الصدد، فإنّ ثالوثا يتحمّل مسؤولية جسيمة في نزع فتيل الأزمة وفتح نوافذ للأمل. وهو الشيخان، الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، والثالث هو نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل. فهل يقبل رئيس الجمهوريّة أن تتلوّث السنة الأخيرة من عهدته بالفوضى ومظاهر التخريب والإفلاس؟ وهل يرضى بالخروج من عالم السياسة من الباب الصغير؟ وهل يقبل راشد الغنوشي أن يضع مكتسبات حزبه على محكّ المغامرات الصعبة في وضع محلي هش ووضع إقليمي منبئ بالمزيد من التغيّرات والتقلّبات؟ وهل يسمح لخصوم النهضة ومناوئيها باستغلال تعمّق الأزمة للتشويش على الآفاق الواعدة التي تنتظره وحزبه مستقبلا؟ وهل يقبل نور الدين الطبوبي أن تزداد وضعيّة البلاد سوءا بما يزيد في الإكراهات والضغوطات على منظوريه وعموم المواطنين؟ وهل يرضى بأن تُحمّل المنظمة النقابيّة الوطنية المناضلة تبعات صدامات عنيفة أو سقوط ضحايا، لا قدّر الله؟ هؤلاء الذين يُرمز إليهم بالفاعلين الكبار، السبسي والغنوشي والطبوبي، عليهم أن يؤكدوا اليوم قبل الغد أنّهم في مستوى المنتظر منهم من تحرّك عاجل وناجع لوقف انهيار الأوضاع واحتدام الفرقة وسحب البساط من تحت أقدام المغامرين ومحترفي الفتنة وهواة السياسة وتأمين مسارات استعادة الوحدة الوطنية وحماية مكسب الثورة وإنقاذ تجربة الانتقال الديمقراطي من الانتكاسة، لا قدّر الله.