(1) الجهد النقدي المسرحي عند أحمد حاذق العرف لم يستند إلى شرعية أكاديمية أو مدرسانية ولا إلى جهة رمزية داعمة, كما لم يستند إلى انتماء تفرضه المؤسسة السياسية أو الإعلامية أو المسرحية نفسها. حافظ الناقد على استقلاليته الفكرية وتمسّك بقناعاته التي لا تفصل جدليا الرّمزي عن المادي و لا المقولي عن الممارسة بل كانت الممارسة النقدية عنده فسحة اختبارية صارمة للمفارقات في هذا وذاك. الكتابة عنده لم تكن ترفا فكريا, أو إتباعا فئويا أو «سكتريا «, بل كانت هذه الكتابة جزءا من استبطان ذاك الإدراك التقشّفي العميق القادم من ذاكرته البدوية القادرة على اختزال الاختزال ومن تجربة المكابدة اليومية, و هو إدراك كاد يكون موقفا تصوفا ضدّ السّائد والمألوف الذي يستوجب التجاوز كفعل نقدي طلائعي. الناظر في هذا الجهد الذي استوفى قراءة مغامرة الحداثة المسرحية التونسية منذ بداية الستينات إلى مشارف نهاية الحقبة البورقيبية,سيدرك سيران وسيلان نَسْغُ خفيّ رابط بين أجزائه, هو نَسْغُ «المنيفستو المسرحي « الذي يضطلع صاحبه بمسؤولية طرح أسئلة الإبداع في معركتها مع سلطة العوائق, وتقليب النظر في الحالات المسرحية توصيفا و تبويبا و الشهادة عليها عبر ربطها بالشروط العامة الحافة بنشأتها وصولا إلى رصد جغرافية القطيعة و مطبّاتها التوبوغرافية. والمهم في كل ذلك أنّ هذه القطيعة المنشودة في التجربة المسرحية التونسية المعاصرة والمتمثلة بالأساس في تجربة فرقة « المسرح الجديد « بوصفها انعطافة أساسية في هذا المسار المسرحي المتراكم منذ نشأة الدّولة الوطنية ليست إلا قطيعة خفيّة للممارسة النقدية نفسها و هو ما يرشح هذه الممارسة إلى اعتلاء منصّة المانيفسو أي إعلان القطيعة وتحمّل نتائج نبوءاتها . (2) أما الأهم في كل ذلك فإن الممارسة النقدية في هذا الكتاب ليست ممارسة معيارية أو مجرّد انتصاب سلطوي زائف يلوي أعناق المفاهيم المعرفية المتحذلقة باسم سوسيولوجيا دُكانية, أو سيميولوجيا منتهية الصلاحية, أو تأويلية عُصابيّة, بل هي ممارسة نقدية جذلى بالمعنى الفلسفي للكلمة يُخفي صاحبُها رغم « الالتزام» الظاهر مرارة الفرح المغدور أمام الانتباهات الألمعية للمعاني, و أكادُ أقولُ إنّه ثمّة ما يُشبه المرح الخفيّ في هذا الجهد النّقدي الشبيه كما يشير المحلل النفساني دانيال سبوني Daniel Sibony « في كتابه»معاني الضحك و الفكه « Les Sens du rire et de l'humour بضحك ينساب كشلال سمعي يسمح باسترداد الأنفاس بعد انقطاعها أمام مفاجأة مُمْتعة «... هذا الشلال المنسابُ بين دفتي هذا الكتاب هو نبضُ السّردية الملحمية التي توخّاها أحمد حاذق العرف و كأنه كالراوي الحاذق الذي يُدَوْزِنُ بعصاه تغريبة المسرح التونسي, و عبر هذا الشلال الدّافق لهذه السردية الملحمية نكاد نسمع أنفاسه بين سطر وسطر وبين فقرة وأخرى, والمفاجآت كثيرة في استقراء الناقد للتجربة المسرحية و كشفه للمعاني الدّقاق كامنة في رصد ثنائيات السّلطة و السّلطة المضادة و الخطاب و العرض والممثل وقرينه والسّكوت والإفصاح ... ونهاية الصيف وبداية الخريف ... كما في مسرحية « غسّالة النوادر « . (3) بمناسبة مواكبة تكريم و عرض أعمال فاضل الجعايبي في مهرجان برلينر فيستشبيل Berliner Festspiele عام 2002, أذكر أننا كنا نسير وراءه أنا والكاتب حسونة المصباحي على الجادة في برلين ليس بعيدا عن بوابة برادنبورغ Brandebourg Tor حين توقف أحمد حاذق العرف فجأة و هو يصيح في وجوهنا : « لقد قرفت من هذه الحرية في هذه المدينة « ... سألناه متفاجئين : « ما بالك يا عرف ؟ « فأجاب ساخرا : « ... اشتقت إلى تونس ... اشتقت إلى النكد التونسي , فائض الحرية في هذه المدينة قد أرهقني « ... كدنا نسقط من الضحك ... ظلت عبارة « فائض الحرية « تتردد في ذهني و أسأل اليوم كيف كتب أحمد حاذق العرف فصول هذا الكتاب الذي يقول عنها : « ليست فصول هذا الكتاب سوى منتخبات ممّا تراكم من نصوص أملتها معايشة للخطاب المسرحي التونسي و معاشرة لمنتجيه تقارب ربع القرن لم نجر عليها من التحويرات إلاّ ما يضفي عليها أكثر ما يمكن من التماسك و الانسجام من جهة, و اقتصرنا فيها على ما بدا لنا من الاتجاهات أو التوجيهات أكثر إثارة للإشكاليات من جهة أخرى « ... و أسأل مرة أخرى بعد كل هذه السنين كيف كتب الناقد فصول هذا الكتاب في ظل « فائض النكد « وغياب الحرية و انعدام شروط القيام بمهمة النقد في ذلك الزمن الكالح الذي ارتفع فيه منسوب التهميش ونكران الجميل و الرّقابة على الألسن والضمائر والفقر في الحسّ و المعنى إلى درجة لا تُطاق ... كيف فعل العرف كل ذلك لا في ما يخص المسرح فحسب بل كل ما يتعلق بمال الأدب و الثقافة و الفنون ؟ ... اعتقد انه الإيمان المطلق بالحرية و الاستقلالية كما عند الإسبارتيين القدامى : مغالاة في عبادة الحرية وتوغل في الصرامة والتقشف ... أليس الفعل النقدي فعلا حرّا و صارما و متقشفا ؟ (4) الناظر في هذا الكتاب الذي يُستعاد اليوم نشره سيدرك أن مساءلته للمسرح التونسي لا تزال قائمة تراوح مكانها, ولا يزال المسرح التونسي يراكم عوائقه الجديدة لعل أهمها عدم قدرته على استيعاب الواقع المتغير وانحصار دوره ضمن الممارسة الثقافوية الضيّقة وضعف خطابه الفكري القادر على إنجاز القطيعة والتجاوز في ظل الزّبونية الرمزية والاستهلاكية الفائضة و الوثوقية المسرحية المطمئنة... و من أجل ذلك فحسب فإن كتاب العرف هذا الذي يستبطن « منيفستو غير معلن « ينعش ذاكرتنا ويستفز حسّنا النقدي الضامر مع الوقت ... إن هذا الكتاب ضروري لأنه مرجعي, و مرجعي لأنه يعلمنا , فطوبى لمن علّم و تعلّم.