جميلة بوحيرد... لعلّ هذا الإسم لم يعد يعني شيئا كثيرا للشباب من أجيال الهاتف الجوال وال«فايس بوك». بل لعلّه لم يعد يقرع جرس ذاكرة من هم أكبر سنّا من أبناء جيلي، جيل الاستقلال. ومع ذلك، فإن جميلة بوحيرد كانت وسوف تبقى رمزا للكفاح الجزائري المستميت من أجل الحرية والكرامة، ومن أجل الانعتاق من ربقة الاستعمار الفرنسي الذي فعل كل شيء يستطيع فعله لابتلاع الجزائر العربية المسلمة وهضمها في معدته الاستيطانية. سوف تبقى جميلة بوحيرد حيّة في ذاكرة الجزائر تلهم التحدّي والتصدّي ليس من أجل الاستقلال والحرية فحسب ولكن كذلك من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية في الجزائر طبعا، وفي المغرب العربي أيضا، وفي جميع أنحاء العالم. فالعالم كلّه تبنّى هذه الفتاة ذات الملامح المغاربية بشعرها الكثيف المتجعّد والعينين السوداوين المتلألئتين ذكاء وهي تقف بجسمها النحيل متحدية جبروت البوليس الاستعماري متجاهلة تخويفاته وغير عابئة بتهديداته لها بمزيد التعذيب والتنكيل. ماذا يمكن أن يفعل أكثر هؤلاء الوحوش من البوليس والجندرمة القادمين خصّيصا من فرنسا لقمع ثورة الجزائريين؟ لقد فعلوا كل ما يستطيعون فعله... الصعقات الكهربائية والتلمّس المذلّ وكل أنواع الشتم وأخيرا التهديد بالإعدام.و لم تعد جميلة تذكر شيئا ممّا كاله لها جلادوها من أنواع التعذيب. ورغم آثار العنف البادية على جسمها فهي لا تذكر شيئا وكأن أحاسيسها تعطّلت فجأة وكأن جسمها غادرها ولم يبق منها غير ذاك الوعي الذي يخاطبها من داخلها دون أن يشعر به هؤلاء الجلادون ولا يسمعونه ليقول لها اصمدي واصبري فلن يقدر عليك وستنتصرين عليهم. تنظر جميلة من وراء قامة القبطان غرازياني الذي يتولّى استجوابها فيملأ عينيها نور شمس الجزائر المبهر في هذا الصباح الربيعي. فأحسّت ببهجة تسري في عروقها قطعها الضابط غرازياني بصوته الغليظ وألفاظه النابية وهو يُعيد نفس ذات السؤال الذي لم ينفك يُعيده: * أين هي مخابئ الأسلحة الأخرى؟ قلت لكم إني لا أعرف عنها شيئا. * بل تعرفين كل شيء أيتها السافلة؟ إنّك أنت ابن العاهرة. ويحمرّ وجه غرازياني وتنتابه موجة غضب عارمة فيتقدم نحوها بهيئته الطويلة ويصفعها على وجهها بكل ما أوتي من قوة فتقع جميلة على الأرض مغشيّا عليها. ولما استعادت وعيها بعد فترة أحسّت بثيابها مبلّلة ففهمت أنهم رشوها بالماء البارد ليوقظوها من إغمائها. فتحت عينيها فلم تجد غرازياني في المكتب وركزت النظر من جديد على ضوء الشمس الدافق من شباك المكتب في هذا الصباح من شهر أفريل سنة 1957. ووجدت جميلة نفسها وحيدة في مكتب ضابط التحقيق فهاج بها شوقها الى منزل الأسرة في القصبة العتيقة وغمرتها ذكريات طفولتها الجميلة.