تابعت بانْتباهٍ كبيرٍ جلسة يوم 28 جويلية 2018 لمنح الثقة لوزير الداخلية التونسي في البرلمان التونسي، ولم أشأ إبداء الملاحظات على الفور ريثما تكتمل الصورة أكثر لديّ وخاصّة مع الابتعاد النسبي عن لحظة المشهد، لكن هذا لم يمنعني من أنّ بعض الاستنتاجات فرضت نفسها عليّ وبقيت تراوح مكانها لديّ، وهي استنتاجات فارقة قد تمهّد لما هو آت في قادم الفترة، لنبدأ بأولاها: آخر مسمار في نعش التوافق والتأسيس لمرحلة جديدة قديمة: - دقت هذه الجلسة آخر مسْمار في نعْش "التوافق" الذي تحوّل في بعض الأوقات إلى تحالف بين شتات نداء تونس - وهي الكلمة التي أحبّذها واستنبطتها سنة 2015- وبين حركة النهضة، وأنهى نهائيا ترتيبات لقاء باريس بين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي في أوت 2013. - في اعتقادي أنّ راشد الغنوشي بإصراره على مساندة يوسف الشاهد، –وهذا من حقه-، بكلّ ما أوتي من عزم، إنّما أجْهز في واقع الأمر ونهائيا على "الحميمية" الظاهرة التي كانت تربطه بالباجي قايد السبسي، بل وأجْهز نهائيا على التقاء المصلحة بينهما، والذي تبيّن هنا أنّه لم يكن إلاّ ظرفيا في انتظار توضّح الرؤية التي توقفت لدى يوسف الشاهد ومعه. - تؤشر هذه الجلسة لبداية مرحلة جديدة قِوامها أو عِمادها: حركة النهضة ويوسف الشاهد، (تعمّدت إيراد النهضة أوّلا في الترتيب) يُراد منها استنساخ ذات تجربة التوافق لكن مع تغيير الوجوه هذه المرّة، إذ لم يعد هناك أيّ موجب لوجود الباجي وابنه حافظ في الصورة. - لا ندري حقيقةً إلى أيّ مدى سيتواصل هذا التوافق الجديد أو بالأحرى التحالف؟ قد يصل إلى أقصاه مع تزكية النهضة لترشح يوسف الشاهد إلى منصب رئاسة الجمهورية في 2019 ، وقد ينتهي في أيّة لحظة إذا رأت النهضة أنّ الشاهد لم يعد يلبّي احتياجات قراءتها للظرفية، أو ارتأى يوسف الشاهد أن ينهي هذا التحالف رغبةً في استمالة الشق المناهض للنهضة من التونسيين، والذي ينتمي إليه ولو نظريا الآن. لمصلحة من تُستهدف رمزية رئاسة الجمهورية؟ - لا يمكن أن ننظر إلى هذه الجلسة إلاّ من زاوية يشاطرني فيها الكثير وهي الإهانة الكبيرة التي تلقتها مؤسّسة رئاسة الجمهورية، بقطع النظر من يشرف عليها الآن، فالاسْفين الذي دُق في هذه الجلسة هو اسْفِين رمزية مؤسّسة رئاسة الجمهورية المنتخبة مباشرة من الشعب. - لا يمكن فهْم هذه الإهانة إلاّ في خضمّ الأزمة الحادّة بين مؤسّسة رئاسة الجمهورية ومؤسّسة رئاسة الحكومة، أزمة مُؤْداها استشعار يوسف الشاهد بأنّه سيقع التضحية به في استنساخ واضح لتجربة تنحية الحبيب الصيد، فكان أن بدأ في التحضير لتفادي هذا الأمر، وهذا ما بات واضحا خاصّة في هذه الجلسة. - ومن الضروري النظر إلى هذه الإهانة على أساس أنّها "هزيمة مدوّية" للباجي قايد السبسي في مسعاه لتنحية من اعتبره "ابنه الروحي" يوسف الشاهد، إذ كانت هذه الجلسة تكْريسا لهذا العجز ولهذه الهزيمة، وتجسيما لعِصْيان "الابن" "للأب"، لكن هل سيصل العصْيان إلى مَدَاه من خلال تنحية محتملة "للأب"؟ هذا ما لا يمكن التكهّن به حقيقةً ! السبسي هو المسؤول عن نهاية الحُلْم الذي أسّسه: - لكن وفي نفس الوقت، يجب أن ننظر إلى المسألة من زاوية ضرورة تحمّل الباجي قايد السبسي كلّ المسؤولية في ما يحدث الآن، فهو الذي يُنظر إليه أنّه "خان" آمال ناخبيه، من خلال مُجريات لقاء باريس وخاصّة من خلال تسويقه للتوافق عقب انتخابه، وهو الذي بنى كلّ الحملة الانتخابية على أساس القطيعة مع النهضة، وهو الذي يُنظر إليه على أنّه سمح لابنه حافظ كي يدمّر نداء تونس ويفتته من خلال رغبته الجامحة في السيطرة على مقاليد إدارته، وهو ما تمّ له فعلا، لكن بعد أن أنهى حُلْم والده وحُلْم من كان يعتقد صادقا في هذا الحلم، وهو الذي يُنظر إليه أنّه وراء اختلال التوازن من جديد على الساحة السياسية في تونس، وهو الذي يُنظر إليه أنّه من خلال السماح لابنه حافظ بالقيام بعملية السيطرة على "الباتيندا"، سمح أيضا كي لا يبقى في شتات النداء إلاّ جَحَافل من الانتهازيين الذين يميلون مع الرياح حيث تميل، وهذا ما بدا واضحا للبعض منهم خلال هذه الفترة وخاصّة في هذه الجلسة. - وعليه، من البديهي، والحالة تلك، أن يكون مشهد كتلة نداء تونس في هذه الجلسة مُفكّكا ومُتَهاويا، ولم يقدر جزء لا بأس منها على الانضباط لعملية التصويت "الديموقراطي" التي حدثت داخلها بخصوص منْح الثقة لوزير الداخلية من عدمها، وهذا أمر بديهي ومتوقع ما دام على رأس نداء تونس حافظ قايد السبسي الذي لم يسْتوعب بعد أنّه عليه أن يبتعد عن الأضواء، وأنّه لا دور له في الساحة السياسية ويكفيه تحمّله عبْء المسؤولية التاريخية في تحطيم نداء تونس وتفْكيكه. خطوات محْسُوبة من النهضة لكن واثقة لاسترجاع الحكم: - في الأثناء، تتقدّم حركة النهضة بثقة وبتُؤَدَة نحو تحقيق حلمها في استرجاع الحكم على قاعدة متينة عكس ما حدث إثر "تسرّع" ما بعد انتخابات 2011، وهنا ارتأت، وهذا من حقها، أنّ مرحلة الباجي قايد السبسي وابنه حافظ قد آتَتْ أًكْلها وتآكلت أيضا، ولم تعد ذات قيمة عندها، فولّت شطْرها نحو يوسف الشاهد ذي الطموح الجارف محاولةً "ترويضه" قصد خدمة أهدافها وخاصّة للتسويق الخارجي، وهذا ما نعتقد أنّها نجحت فيه من خلال إرساء التحالف "الاستراتيجي" بينهما والذي تجلّى البارحة بكلّ وضوح من خلال نزول الغنوشي شخصيا إلى ميدان البرلمان في هذه الجلسة فكان تصويت الكتلة، تصويت المبايعة للغنوشي أكثر منه تصويتا للشاهد، والسؤال الذي يمكن طرْحه هو هل سيتواصل هذا التحالف ويصبح دائما؟ أم أنّه ظرفي ومؤقت للطرفين؟ هذا نتركه للأيّام ! فحسابات كلّ طرف وإن التقت ظرفيا فلن تكون دائمة. - وفي الأخير، بات واضحا من خلال هذه الجلسة ودون أن أدخل في التفاصيل التي أنبأ بنفسي عنها، أنّ العديد من النوّاب يمثلون إمّا أحزابهم أو مصالحهم أو مصالح مجموعة ما، أمّا تمثيليتهم للشعب وحتى تسميتهم نوّاب شعب فقد باتت من محض الوهْم. هل يمكن أن يتمكّن أو يكون الشاهد مُجَسّد الحلْم القادم؟ - لكن قبل أن أُنهي عليّ أن أعرّج أنّ يوسف الشاهد قد يكون محطّ آمال التونسيين لو تمكّن فعلا من أن يُخْرجهم من عُنق الزجاجة، ولو تمكّن فعلا أن يُقنعهم بكفاءته وقدرته على التسيير بعيدا عمّا يستعمله الآن من "ماكينة" وأشياء أخرى هو ومن معه يعلمونها جيّدا، وأن يُقنعهم خاصّة بأنّ مطمحه -وهو مشروع ومن حقه- ليس الحكم من أجل الحكم بل من أجل "إنقاذ " تونس، خاصّة إذا ما استوعب جيّدا ما معنى أنّ كلّ شيء مؤقت حتى الجلوس على كرسي الحكم، وبالأخصّ إذا ما تمكّن فعلا من أن ينقذ السفينة؟ لكن هل هو قادر على ذلك؟ وهل ينوي ذلك فعلا؟ أترك الإجابة للأيّام.. ! من الخراب يولد الأمل والفرز آت لا محالة.. - وكي أنهي، لا بدّ أن أؤكّد أنّ تونس تعيش الآن ظروفا مشابهة لسنتيْ 2012 – 2013، عندما كان التوازن السياسي مختلاّ لفائدة الترويكا وخاصّة حركة النهضة، هذا الاختلال بان واضحا للجميع البارحة، وشاهد التونسيون على المباشر "إعلان وفاة" رسمي لما تبقى من نداء تونس ولمن ابتعد عنه أيضا وتشكّل في ألقاب تحكي انتفاخا عن أصحابها، وبما أنّ الطبيعة تكره الفراغ، فمن البديهي أنّنا نعيش الآن مرحلة فرْز حقيقي في تونس قد تُنهي هذه المنظومة الحالية التي تآكلت شرعيتها إلى أبعد الحدود وبات ممثلوها في وادٍ وجموع التونسيين المطحونين بضَنَك اليومي وبُؤْسه في وادٍ آخر، وقد تأتي منظومة أخرى ووجوه تجسّدها، لكن لا يمكنها أن تستقطب التونسيين أو تقنعهم إلاّ إذا كان شعارها فعلا الصدق في القول والإخلاص في العمل فعلا وليس كلاما، وأن يكون ولاءها حقيقةً لتونس وليس للأشخاص وأن تتمكّن من أن تبث الحلم الجماعي بإنقاذ تونس: الوطن الذي يحتضن الجميع لدى عموم التونسيين، قد يتصوّر البعض بأنّني أحْلم أو أهْذي، لكن هَذَياني هو هَذَيان اليقظة، وحتى إن ذهبنا إلى الخراب، فمن الخراب يُولد الأمل وتونس هي طائر الفينيق الذي يحيا من رماده، فلا خوْف عليها وطُوبى لمن يصطفّ إليها ومعها ومن أجلها والعار والمذلّة لمن خانها أو يخونها...