قضّت جميلة بوحيرد 3 سنوات في السجون الفرنسية متنقّلة من سجن الى آخر حتى انتهى بها الأمر في سجن «فران» قرب العاصمة باريس. حيث تلقّت العلاج بمستشفى المدينة وتحسّنت ظروف إقامتها بالسجن. كانت الأحداث تسير متسارعة بقضية الجزائر نحو النصر النهائي وهو ما تمّ فعلا بعد إمضاء اتفاقيات «إيفيان» في مارس 1962 والتي سمحت بإعلان وقف إطلاق النار ووضع حدّ لحرب الجزائر بعد إدراك الدولة الفرنسية وعلى رأسها الجنرال ديغول فشل الحلّ العسكري. وقد وقع التنصيص ضمن اتفاقيات «ايفيان» على انفصال الجزائر عن فرنسا بموجب إرادة وخيار الشعب الجزائري والعيش في وطن حرّ ومستقلّ يحمل اسم الجزائر. واتخذت الإدارة الفرنسية عددا من الاجراءات أولها إطلاق سراح جميع السجناء الذين كانوا يقبعون في السجون سواء في الجزائر أو في فرنسا. وهكذا أطلق سراح جميلة بوحيرد ورفاقها عشية 25 جويلية 1962 يوم الإعلان عن استقلال الجزائر. ووجدت جميلة نفسها فجأة وحيدة في شوارع باريس الفسيحة ورغم حضور رفقائها الى جانبها كان يخيّل إليها أنها تعيش حلم يقظة. إن للحرية مذاقا لا يتذوقه إلا من قاسى آلام الاضطهاد وإن لها نورا لا يراه إلا من عانى ظلمة السجون وحين تقترن الحرية باسم الوطن الوليد، فإن الأمر يتجاوز كل قدرة على الخيال والتصور... من باريس كانت جميلة ترى الجزائر تُولَدُ في ومضات ضياء الحرية التي تبدّد ظلمات استعمار جثم على الجزائر قرنا يزيد ثلاثين سنة من الزمن. وكانت جميلة تريد أن تطير وأن تحلّق. وكانت تريد أن تغني، وأن ترقص، وأن تنشد فرحتها واعتزازها بوطنها الناشئ. وتذكّرت أهلها في الجزائر وتخيّلت فرحتهم العارمة وتذكرت رفاقها الذين لن يحضروا هذا اليوم التاريخي الذي ضحّوا من أجله بدمائهم وأرواحهم. واستعادت دون أن تشعر شريط أيام الجمر والكفاح وساعات المطاردة والتخفّي واللقاءات السرية في بيوت النضال والجهاد في حيّ القصبة العتيق. استحضرت جميلة وجوه رفاق الدرب والنضال لكنها لم تمنع استحضار وجوه المضطهدين والمعتدين من الاستعماريين الذين كانوا يتصرّفون في خيرات الجزائر دونما حياء ويعاملون أبناءها بشكل مشين. لكنها تذكرت في الوقت ذاته وجوها أخرى من هؤلاء الأوروبيين الذين انخرطوا عن طواعية وإيمان ضمن مجموعات النضال من أجل استقلال الجزائر. وذاقوا من أجل ذلك من العذاب ألوانا. وصُنّفوا من الخائنين لوطنهم. وتذكرت جميلة ما قالته للقاضي الذي حكم عليها بالإعدام: «أنا لست ضدّ فرنسا أنا ضدّ الاستعمار». سَرَحَت جميلة بخيالها وأحسّت فجأة أن الفتاة العشرينية المنتشية الآن بفرحة تحقيق حلمها واستقلال بلادها لم تعد ملك نفسها وأنها قد تكون تحوّلت الى أسطورة يصبح من الصعب العيش معها. هل كان لها الاختيار في ذلك؟ إنها لم تطلب غير استقلال بلادها. وقبلت أن تضحّي بحياتها من أجل هذا الطلب. لكن الشعراء والأدباء والصحفيين جعلوا منها رمزا وسلاحا لقهر الاستعمار. وغدا ستُنادى جميلة بالمجاهدة. وهو ما يعني أن نضالها سيتواصل لأن الجهاد الأكبر من أجل جزائر مزدهرة ومنيعة يبدأ بعد هذه الفرحة بالاستقلال. انتهى