لم تُفض المجهودات والمبادرات على مدار أشهر طويلة إلى إنهاء الأزمة السياسيّة التي تعيشها بلادنا. وفي الوقت الَّذِي توقّع فيه الكثير من المتابعين انزياح واقع الضبابيّة وتحصيل مخارج هادئة يتّضح من يوم إلى آخر أنّها، أي الأزمة، تشتدّ تعقيدا وتركيبا.وتزدادُ صعوبة وتداخلا وغموضا. انفضّ الكبار عن مجالسهم. وعجزوا عن الوصول الى حلّ توافقي يُرضي الجميع. ومازال ملف الحكومة المشبك الذي تقفُ عنده كلّ الآراء اختلافا وتباينا صارخا حول صيغ إدارة الشأن العام خلال ما تبقى من العهدة الرئاسية والبرلمانية الأولى بعد الثورة. فحتى الجلسة البرلمانية الأخيرة لمنح الثقة لوزير الداخليّة، على أهميّة رهاناتها ومُخرجاتها، لم تزد الوضع إلاّ تشابكا. ففي الوقت الذي عوّل فيه رئيس الحكومة يوسف الشاهد وأنصاره على أن تكون خنجرا في خصر خصومهم، زادت في إرباك الحالة وخلط الأوراق من جديد سواء في علاقة بالوضع داخل نداء تونس وعلاقته برئيس الحكومة أو واقع التوافق بين النهضة والنداء. وتتتالى التطورات المتسارعة داخل عدد من الأحزاب وبالأخص منها حزب آفاق تونس وحركة مشروع تونس، إضافة الى مواصلة الاتحاد العام التونسي للشغل مطالبته برحيل الحكومة وانفتاح مسلك جديد لصراعات قادمة واستقطابات عقائدية وإيديولوجية خطيرة. محورها تقرير لجنة الحقوق والحريات الفرديّة الذي بات محرّكا للكثير من الضوضاء والفوضى.والخوف كلّ الخوف من أن يكون هذا التقرير أداة لمواصلة تأزيم الوضع والعراك بين مختلف أطراف الأزمة وأساسا صاحب التقرير. وهو رئيس الجمهوريّة بما قد يدفع بالوضع الى المزيد من الاضطراب. يتمترسُ كلّ طرف، إذن، في موقعه. ويرفضُ التزحزح عَنْهُ. بل تعمل كلّ الأطراف على القيام ببعض المناورات في محاولة لكسب المبادرة وتحقيق التقدّم على الخصوم. ولكن في النهاية يقف الجميع عند مأزق تواصل الأزمة. ففي كلّ مناورة وفي كل منعطف يصطدمُ أصحابها بالصّد المقابل وبانكشاف خيوط اللعبة. فيعود الجميع إلى الخلف دون حصاد كبير يُذكر لهذا الطرف أو ذاك. يكادُ المتابع يصف الحالة التي عليها النخبة اليوم بأنّها حالة وقوع في دوَّامة أو الذهاب بعيدا في جداول متاهة لا يبدو لها مستقر واضح ودقيق. وهي فعلا كذلك، إذ لم يعد أحدٌ من الفاعلين، وحتى الكبار، يعرف ماذا يُرِيد؟ ولا إلى أين يصل؟ ربّما للأزمة مخرجاتها. وهناك سياسات ومناهج كاملة لإدارتها والتوقي منها وإيجاد سبل للحل. ولكنّ الدوّامة أشدّ وقعا لأنّ الواقعين في تجاويفها والخاضعين لحركة دورانها السريعة قد يفقدون كلّ مقود. وقد يعجزون في النهاية عن الخروج منها جميعا بأمان وسلام. فلن تهدأ هذه الدوّامة، بأزماتها المتتالية والسريعة ومسارات خلط الأوراق المتعدّدة داخلها واحتدام المناورات والمناورات المضادة وكثرة التسريبات والإشاعات وانتفاخ كرة الشيطنة والكره وتزايد التباعد بين الأطراف الكبرى الفاعلة... لن تهدأ على الأرجح هذه الدوّامة الخطيرة إلاّ بالإطاحة بعدد من الرؤوس التي تتناظر اليوم في نوع من الصلف والعناد والمكابرة دون أدنى مراعاة للظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد اقتصاديا واجتماعيا على وجه الخصوص.