بقلم المؤرخ محمد حسين فنطر (المختص في التاريخ القديم والآثار الفينقية البونية وتاريخ الأديان) كان أمراء القبائل يلتقطون الأخبار عن عليسة ومدينتها وكلهم معجبون بجمالها وحذقها، وكان من بينهم يربص Hiarbas وهو ملك قبيلة المكسويين، فما أن بانت الأميرة حتى افتتن بجمالها المشرقي المشرق وأصبح مسكونا بعشقها لا يفكّر إلاّ فيها وفي الزّواج بها، فأرسل الى قرطاج يطلب عشرة من أعيان سكانها، ولمّا مثّلوا بين يديه أعرب لهم عما يخالجه متحدثا عن حبه لعليسة وعن عزمه على الزواج بها، فأدهشهم وما كانوا يتوقعون ذلك ولكن كيف العمل؟ فإن أجيب الملك بالرفض كانت العاقبة وخيمة، إذ تصبح الحرب حتمية، وقد تذهب المستوطنة الفتية أدراج الرياح، فرجعوا الى ديارهم معتقدين ألاّ سبيل للتخلص من مأزق كهذا إلاّ بواسطة الحيلة. فلما مثلوا بين يدي عليسة لم يخبروها بما جرى، بل قالوا إنّ ملك المكسويين يطلب من أهل قرطاج أن يرسلوا إليها بعض الذين يعلّمونه وشعبه مبادئ الحضارة وأضافوا أنّ ليس من اليسير على المواطن القرطاجي أن يعيش حياة شظف بين أفراد قبيلة خشنة متهورة. فقرّعتهم الملكة وأنكرت عليهم التعالي وحبّ الذّات، فأردوفوا أذاك معربين عما يريده منها يربص، فأجابت وقد وقعت في الفخ أنّها مستعدة للذهاب حيث يناديها مصير قرطاج، وطلبت أن يمهلوها ثلاثة أشهر للنظر في شؤونها وشؤون مدينتها. وقد أحسنت المناورة مع البقاء مخلصة لروح زوجها دون أن تستفزّ الملك الذي بات يحاصرها فضلا عن ضغوط رفاقها الذين كانوا يؤيّدون زواجا يرون فيه حماية لمستوطنتهم وازدهارها، ثمّ بعد مماطلة جمعت بين الوعود المغرية والذرائع الماكرة، هيأت الأميرة محرقة مُدعيّة أنها تبغي تقديم قربان حذو مقرّ سكناها، ولمّا تجمع الناس يترقبونها خرجت من بيتها وانبرت على منصّة تشرف على الأطيمة، وقالت إنّها ستلتحق بروح زوجها مخلصة لذكراه، ثمّ جرّدت سيفا وأغمدته في صدرها وارتمت في نار الأطيم المؤججة ضحية مقدّسة لذكرى فقيدها وحرصا على ديمومة مدينتها، وقد سمْتها بكلمتين فينيقيتين قرت حدشت، مع العلم أنّ قرت تعني مدينة وحدشت صفة تفيد الحداثة، فقرت حدشت تعني مدينة حديثة أو جديدة من حيث الزمن ومعنى ذلك أنّها أنشأت بعد جديرة Gadir في اسبانيا ولكشة Lixus في المغرب ووتيكة Utica، ومن حيث الوظيفة ومعنى ذلك أنّها مستوطنة قارة توفّر كل ما يحتاجه بناتها ومعمّروها زمنيّا واقتصاديّا وسياسيا واجتماعيا فهي مسؤولة عن تصريف جميع شؤونها. تلك هي اسطورة قرطاج التي ساهمت في نحت ملامحها أجيال مختلفة الزمن والثقافة، ففيها عناصر تعود الى صور وأخرى جاد بها الخيال الإغريقي الروماني الذي عايشها طيلة قرون عديدةن ولعلّها تمتد من ميناندروس الأفسسي Ménandre d›Ephèse وهو من مصنّفي القرن السادس قبل ميلاد المسيح الى الأسقف الاغريقي أوستاثيوس Eustathe الذي عاش خلال القرن الثاني عشر. وهكذا نتبيّن أنّ الذين تداولوا اسطورة عليسة في أفواههم وتناقلها حبر أقلامهم تقاسموا ثمانية عشر قرنا لقراءتها ونسخها والتعليق عليها مع ممارسة الحذف والاضافة عن وعي وعن غير وعي شأنها في ذلك شأن الأساطير والملاحم لدى كل الشعوب في مختلف العصور.