بقلم المؤرخ محمد حسين فنطر (المختص في التاريخ القديم والآثار الفينقية البونية وتاريخ الأديان)لقد أشارت آيات العهد القديم الى شعيرة البغاء المقدس، وقد تفشّى بين قبائل بني إسرائيل تحت تأثير المعتقدات الكنعانية، مع العلم أنّ بني إسرائيل في غالبهم كنعانيون اتبعوا رسالة موسى واعتنقوا ديانته. ومهما يكن من أمر، فآيات التوراة تثبت هي الأخرى وجود البغاء المقدس في يورشليم، فلا يجوز للمؤرخ التشهير ولا التنويه بالشعائر الدينية أيّا كانت اذ لا يحقّ النظر إلى الحضارات القديمة الا من خلال منظارها الخاص ودون حكم لها أو عليها وليس ذلك باليسير. وبعد هذا الاستطراد، نعود الى عليسة وسفرها الطويل المرهق المحفوف بالأخطار، فقد أرسى الأسطول في ثغر من ثغور شبه الجزيرة التي ستحتضن المستوطنة الجديدة، وحلّت عليسة ورفاقها بأرض معطاء مستفيدين من كرم يربص، ملك المكسويين الذين كانوا اذاك يعمّرون الربوع الممتدة بين جبل بعل ذي القرنين وخليج تونس. ولعل ربوع المكسويّين كانت تغطي ضواحي قرطاج، حلق الواد والكرم. وبعد الترحاب ومراسم تبادل الهدايا كان لابد لعليسة ورفاقها من فضاء يجدون فيه نصيبا من الرّاحة. ولمّا كان الأهليون يخشون مكوث دخلاء غرباء في ربوعهم، لجأت الأميرة الى حيلة جلد الثور وتتمثل في طلب اقتناء قطعة أرض لا تتجاوز مساحتها ما يغطيه جلد الثور، مع العلم أن جلد الثور يسمّى باللغة الإغريقية بيرصا Byrsa، وفي اللغة الفينيقية كلمة برصة تعني الأطم أو القلعة، فإستبهلوها واستجابوا لطلبها علّهم كانوا يريدون معرفة ما عساها أن تفعل بأرض تساوي مساحتها ما يغطّيه جلد ثور. وما أن تمّ الاتفاق حتى بادرت عليسة بتقطيع جلد الثّور سيرا رقيقا طويلا مكّنها من تسييج مساحة كافية لإقامة مستوطنة فسيحة الأرجاء، ولعلّها بجلد الثور طوّقت الربوة التي ستتخذها أطما يشرف على المستوطنة ويكون لسكّانها ملجأ عند الاقتضاء. وممّا تداوله بعض المصنّفين القدامى طرفة حول أسّ المستوطنة مضمونها أنّ المعول أخرج رأس ثور فلم تطمئّن عليسة ورفاقها لما منّت به الأرض بل تشاءموا لأنّ الثور ينبئ بالمشقة والعبوديّة، فهو نير ومحراث، فتركوا ذلك المكان واتجهوا إلى موقع ثان يحفرونه لتهيئة الأسّ، فأبرز معول الحفار رأس حصان، وهو رمز القوّة والطوق الى الحرب، فأقيمت قرطاج في ذلك المكان الميمون وسرعان ما ازدهرت مستوطنة عليسة ونمت أخبارها إلى القبائل، فباتت تتردّد عليه الوفود وأرسلت إليها وتيكة سفارة لتقديم الهدايا ولتهنئة المستوطنين وتشجيعهم على البقاء والاستثمار.