منذ سبع سنوات ونصف لم ينقطع الجدل حول حقيقة الاستقلال وحقيقة الخلاف بين صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة وغير ذلك من القضايا الخلافية التي تقسم الشارع التونسي وتحوٌل الفضاء الإعلامي والعمومي إلى مجال للصراع. تونس «الشروق»: الدكتور عميرة علية الصغير من الباحثين المتخصصين في التاريخ المعاصر أشرف وأطّر عددا من الندوات وأصدر مجموعة من الكتب حول تاريخ تونس المعاصر وخاصة ما يتعلٌق بالحركة الوطنية وبناء دولة الاستقلال. الشروق إلتقته في هذا الحوار هل بروتوكول 20 مارس يكرّس» استقلال» تونس فعلا ؟ إنّ رضوخ الجانب الفرنسي وقبول منح التونسيين «استقلالا» تامّا بعد أقل من عشرة أشهر من رفضه اياهم جاءا في اطار الإستراتيجيا الاستعمارية الفرنسية للتخلي عن الاستعمار المباشر وكذلك لضغط المقاومة المسلحة اليوسفيّة وللتفرّغ للقضاء على ثورة التحرير الجزائرية المندلعة في 1 نوفمبر 1954 وحشد كل قواها العسكرية والمالية للحفاظ على الجزائر لم يرض صف المعارضين للجناح البورقيبي الحاكم وتمادوا في أغلبهم على اعتبار امضاء بروتوكول 20 مارس «خديعة فرنسيّة» هدفها الاستفراد بالمقاومة الجزائرية وقطع السند عنها من «اخوانهم» التونسيين ومؤكدين حتى وإن أقرّت فرنسالتونس بسيادتها الخارجية ومنحتها حق تكوين جيش وضبط أمنها الداخلي بنفسها، فانّ تونس لم تستقل فعليا بما أنّ الدولة الحامية سابقا والشريك الجديد المستقبلي تضمن، بمنطوق الاتفاقيات ذاتها، الحفاظ على مصالح مواطنيها في تونس من موظفين ومعمرين وكذلك شركات استثمار في الثروات الطبيعية وأبقت على تبعية تونس المالية والتجارية والأخطر فانّ فرنسا ابقت على قواتها العسكرية فاعلة من جنوب البلاد الى شمالها، اضافة على الحفاظ على وجودها الثقافي عبر المؤسسات التعليمية واعتبار اللغة الفرنسية لغة ثانية لتونس بما أن الاتفاقيات ذاتها تفرضها «لغة غير أجنبية».هذه حجج من كان لا يعتبر 20 مارس هو تاريخ استقلال تونس وهي كذلك المسوّغات التي ستحمل الجناح الرافع لراية المقاومة والتضامن المغاربي لرفض وضع السلاح حتى بعد إعلان الاستقلال. لكن التّمشي المقارن لإتفاقيات الاستقلال لمستعمرات أو محميات أخرى،إن كانت حازت على استقلالها بالنضال السياسي اساسا، كحالة المغرب الأقصى، أو عبر المقاومة المسلحة، شأن الجزائر، يثبت أنّ مضمون اتفاقية استقلال تونس لا تختلف عن غيرها كثيرا. فمثلا نقرأ في الإعلان المشترك الممضى بتاريخ 2 مارس 1956 بباريس بين الحكومة الفرنسية وممثل حكومة السلطان محمد الخامس وهو بمثابة»اتفاقية استقلال المغرب»بما انه يلغي اتفاقية الحماية (اتفاقية فاس ل 30 مارس 1912) ويقر بمبدأ «التكافل»(l'interdépendance) في مجال الدفاع والعلاقات الخارجية والإقتصاد والثقافة ويضمن مصالح الفرنسيين المقيمين بالمغرب الإقتصادية وكذالك حرياتهم ويوضح «البروتوكول الملحق» بهذا الإعلان على أن المغرب يبقى ضمن منطقة الفرنك الفرنسيّ zone franc ويحافظ على الضمانات القائمة للموظفين والأعوان الفرنسيين المقيمين بها.كما حافظت فرنسا بحضورها العسكري في محميتها المستقلة جديدا. هذه الاتفاقيات ستُرفض أيضا، كما كان الحال في تونس،من أنصار الأمير محمد ابن عبد الكريم الخطابي واعضاء جيش التحرير والمقاومة المسلحة في الداخل المغربي. أمّا في الجزائر التي كان استقلالها ثمرة حرب تحرير سقط فيها مئات الآلاف من الشهداء والذي أتى بعد مفاوضات شاقة ليكلّل بإمضاء ‹اتفاقيات افيون»(Les accords d'Evian ) بين ممثلي جهة التحرير الوطني والحكومة الفرنسية في 18 مارس 1962 فانّ الاتفاقيات هنا ايضا تقرّ للفرنسيين المقيمين بالجزائر بحقوقهم المكتسبة في الملكية وبحق المشاركة في الحياة العامة والمساهمة في المجالس المحلية المنتخبة والمحافظة على نظام الأحوال الشخصية الخاص بهم كما تنصّ اتفاقيات افيون على بقاء الجزائر في منطقة الفرنك وو على ضرورة الاستغلال المشترك للثروات الطبيعية في المنطقة الصحراوية من الجزائر كما تقبل الجزائر بمنح فرنسا على وجه الكراء لمدة 15 سنة متجددة للقاعدة البحرية «المرسى الكبير» وتسمح للجيش الفرنسي باستعمال بعض المطارات والمنشآت التي يراها ضرورية. الاستنتاج هوانّ افتراض تحقيق استقلال مثالي، كما يتصوره معارضو بروتوكول 20 مارس، بمعنى القطيعة التامة مع المستعمر القديم وانتفاء حضوره الإقتصادي أو العسكري أو السياسي أو الثقافي في الدولة المستقلة واكتساب هذه الأخيرة لكل مقومات السيادة النّاجزة «دفعة واحدة» هو افتراض غير تاريخي ومثالي. أنت اهتممت بالصراع البورقيبي اليوسفي الى أي حد يمكن اعتبار هذا الصراع داخل العائلة الدستورية حول الزعامة فقط؟ فعلا لقد تناولت هذا الموضوع خاصة في كتابي الصادر سنة 2011 تحت عنوان» اليوسفيّون وتحرّر المغرب العربي» وحاولت نقض الأطروحة التي تختزل الخلاف بين رئيس الحزب الحر الدستوري الجديد (الحبيب بورقيبة) والأمين العام لهذا الحزب (صالح بن يوسف) في خلاف على الزعامة وأن صالح بن يوسف، كما كانت الدعاية الرسمية تردّد دائما، كان مفتونا بالسلطة والزعامة ولم يقبل بزعامة منافسه الحبيب بورقيبة وما معارضته لإتفاقيات الإستقلال الداخلي الا للمصلحة الخاصة وطمعا في الحكم، وهو رأي في تقديرنا مجانبا للحقيقة التاريخية وفيه كثير من التجنّي على شخص بن يوسف. لكن لا ينفي أن التانافس، وهو مشروع،على الزعامة بين رأسي الحزب الدستوري الجديد كان قائما وليس بين بورقيبة وبن يوسف فحسب بل مع رؤوس أخرى كالمنجي سليم والباهي الأدغم وعلالة بلهوان...هنالك نسبة من الذاتية في وقوف بن يوسف في وجه بورقيبة لكن دوافع الفعلية والموضوعية لمعارضته لإتفاقيات 3 جوان 1955 (اتفاقيات الإستقلال الداخلي) هي حقيقة ثابتة. لماذا اذن كان صالح بن يوسف ومن معه من قيادة الحزب (الباهي الأدغم والرشيد ادريس قبل تغيير رأيهما ويوسف الرويسي وعلي الزليطني وغيرهم) يعتبرون تلك الإتفاقيات «خطوة الى الوراء»؟ لأنّ الإتفاقيات تعترف لفرنسا بوجودها الدائم في تونس وضمان مصالحها ومصالح جاليتها فيها ولأنّ الجيش الفرنسي سيبقى دائما ولأنّ الإتفاقيات تفقد تونس مقومات السيادة، لأنها ليس لها سيادة خارجية والتي تستمر بيد فرنسا وليس لها سيادة كاملة على ترابها بحضور الجيش الاستعماري وحتى بوليسه ومحاكمه ولأن التبعية الإقتصادية تبقى قائمة والتبعية الثقافية كذلك وحجة أخرى كان يسوقها صف بن يوسف هي أن تلك الاتفاقيات «خيانة للإخوة في الجزائر والمغرب».هذه الدوافع الحقيقة الأولية لمعارضة بن يوسف ومن والاه ولوجاهة تلك المواقف فان مؤتمر الحزب المنعقد في نوفمبر 1955 بصفاقس طالب بمراجعة تلك الاتفاقيات في اتجاه ما طلب به بن يوسف نفسه. يبقى أنّ من اصطفوا الى جانب بن يوسف كانوا من المقاومين ومن الفئات الشعبية كذلك لكن الظاهرون والمؤثرون كانوا من الأوساط المحافظة من دوائر جامع الزيتونة 5شيوخ وطلبة) ومن العروبيين ومن العائلة الحاكمة ومن الفلاحين الكبار (خوفا من خطر النظام الجمهوري الماثل) وحتى الكثير من العملاء.و هذا الاصطفاف «الرّجعي المحافظ» الى جانب اليوسفيين سوف يغطي على مواقف صالح بن يوسف الذي غذاه هو ايضا بمنطق ذرائعي ومنفعي عندما كان يرفع حتى بعد امضاء بروتوكول 20 مارس شعارات تغازل الفئات الشعبية والمحافظين عامة باتهام نظام بورقيبة ب «العمالة» و»العلمانية» و»الكفر» و»الفسق» و»التغريب» والتخلي عن الهوية العربية والإسلام... وهذا الخطاب ما فتئ يردده المناوئون لنظام بورقيبة وعاد بقوة بعد 2011 وصعود جماعة الإسلام السياسي للحكم وسيطرتهم على الفضاء العام. أحزاب سياسية وتيارات ايديولوجية تنسب صالح بن يوسف لها من هو صالح بن يوسف إيديولوجيا؟ فعلا تعمد قوى وتيارات سياسية الى الإستنجاد بالماضي وبرموزه لتوظيفه خدمة للحاضر وللتموقع السياسي والإيهام بأنها سليلة تيارات سياسية معينة وضاربة في التاريخ وحاملة لمشروعها وهو مثلا ما يدعيه «حزب نداء تونس» من حمله للإرث البورقيبي وفكره التحديثي والذي تبين تهافت وكذب هذا التوظيف بتحالف رأس الحزب مع التيار الإخواني الذي كان يعتبره بورقيبة رمز التخلف والمعاداة للوطن، وفي الجانب الآخر استحوذ الإسلاميون على صالح بن يوسف ونسبوه لهم وكأنه أحد رجالهم في الحركة الوطنية والمعبر عن مشروعهم الذي اسقطه بورقيبة وهو طبعا تجني على بن يوسف واختطاف له. فالرجل لا يختلف في تكوينه العلمي (في لسي كارنو) ولا في الجامعة الفرنسية عن بورقيبة وآخرين كثيرين في قيادة الحزب الحر الدستوري الجديد، فكلاهما كان حداثيّا، محتقران للثقافة التقليدية ولحامليها من الزيتونيين ومن والاهم والدليل خروجهم على جماعة الحزب القديم وعلى مشائخه منذ مؤتمر 1934، ويُذكر على بن يوسف عندما كان وزيرا في حكومة محمد شنيق سنة 1951 وأثار طلبة الزيتونة الشغب ضد الحكومة للدفاع عن مطالبهم، وتصارعوا مع الشق الدستوري الجديد الى درجة التضارب،انه هدد الزّواتنة «انه عندما تستقل تونس لن يتردد في غلق جامع الزيتونة ووضع مفاتيحه في المتحف».خطابه لاحقا وفي اطار الصراع مع خصومه وبهدف تجنيد الموالين ودغدغة مشاعرهم الدينية، سوف يخطب في جامع الزيتونة في 7 اكتوبر 1955 ويعمد لخطاب الدفاع عن الهوية العربية الاسلامية لإحراج بورقيبة ومن معه ولكسب ودّ جمال عبد الناصر الداعم هو ايضا للخطاب القومي. هل يعني هذا ان صالح بن يوسف كان اسلاميا او قوميّا عربيا ؟ طبعا لا ولا يعني كذلك أنه كانت هناك عداوة خاصة لهذا الزعيم الكبير للإسلام او للعروبة. فقط السياسة لها مقتضياتها والنجاعة في استقطاب الموالين تتطلب تكييف الخطاب مع المستهدفين للإاستقطاب. بعض المؤرخين نبّهوا لخطورة التشكيك في الإستقلال على مستقبل الوحدة الوطنية ؟ كيف ترى المنطق الذي اعتمدته سهام بن سدرين باعتبارك مؤرخا وألم يكن من الأفضل تكليف المؤرخين بملف العدالة الإنتقالية؟ فعلا نبه جل مؤرخي تونس المعاصرة لخطورة التشكيك في قيمة استقلال تونس وحتى نفي وجود وثيقة الاستقلال أصلا وأصدروا عرائض في ذلك وحتى نظموا ندوات في موضوع الاستقلال وكنا نحن في المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر نظمنا منذ سنتين في الذكرى الستين للإستقلال مؤتمرا علميا في الموضوع، لكن وللأسف لم تصل ورقاته للرأي العام. ونرى فعلا هنالك خطورة في التلاعب بالتاريخ وضرب الذاكرة الجماعية ووصم جيل واجيال من التونسيين بصفة الخيانة واستصغار تضحياتهم ومهما كانت نتائج الاتفاقيات ونواقصها،