في مثل هذا اليوم من سنة 1961 فقدت تونس أحد أبرز أبطال الحركة الوطنية الزعيم صالح بن يوسف في عملية اغتيال منظمة ثم ينقل جثمانه إلى القاهرة إلى حدود بداية التسعينات لتتحول رفاته إلى مقبرة الجلاز بالعاصمة. اغتيال بن يوسف كان في اطار صراع بورقيبي يوسفي خلف ولا يزال جدلا كبيرا حيث اعتبره البعض صراعا فكريا بينما اعتبره البعض الآخر صراعا على الزعامة انتهى باجتثاث كلي للحركة اليوسفية عسكرياوثقافيا وسياسيا لا تزال تداعياته إلى اليوم. صالح بن يوسف هو أحد أبرز قادة الحركة الوطنية التونسية تولى الأمانة العامة للحزب الحر الدستوري الجديد كما تولى وزارة العدل في حكومة محمد شنيق التفاوضية بين 1950و1952.
عارض سنة 1955 الاستقلال الداخلي الذي قبل به بورقيبة مما أدى إلى حدوث صدام بينهما. أدى الخلاف إلى حدوث شرخ في الحزب الدستوري وإلى دخول أنصار الفريقين في صراع مفتوح. ورغم حصوله على تأييد جزء كبير من الإطارات الدستورية خسر بن يوسف صراع الزعامة ووقع فصله من الحزب. اختار ابتداء من جانفي 1956 اللجوء إلى المنفى وتقرب من جمال عبد الناصر إلا أن إعلان الاستقلال في مارس 1956 والجمهورية في جويلية 1957 وابتعاده عن البلاد أدى إلى إضعاف موقفه ليقع في النهاية اغتياله في 12 أوت 1961 في ألمانيا.
من جربة إلى السربون
ولد الزعيم صالح بن يوسف بجربة ميدون في 11 أكتوبر 1907 تعلم مبادئ القراءة والكتابة في كتاب القرية (جامع حاضر باش) ولما بلغ الثامنة من عمره أرسله جده إلى العاصمة ليتعلم في المدارس العصرية فتحصل على الشهادة الابتدائية في مدرسة نهج التريبينال ثم التحق بمعهد كارنو وبما انه لم يكن للغة العربية نصيب هام في ذلك المعهد انتدب له والده أحد شيوخ الزيتونة المتضلعين في اللغة فتكون على يده وكان في الآن نفسه يتابع الدروس الليلية في مدرسة العطارين فنال من تلك المدرسة المؤهل العربي ثم نال الديبلوم العالي العربي ومن معهد كارنو الباكلوريا سنة 1930.التحق بفرنسا لمواصلة تعليمه في السربون فحصل على الإجازة في الحقوق والعلوم السياسية سنة 1933.
عاد الزعيم صالح بن يوسف إلى تونس في صائفة 1934 ليفتح مكتب محاماة جعله مقرا لنشاطه الوطني والتحق مباشرة بصفوف الحزب الحر الدستوري الجديد واحتل فيه المراتب الأولى فكان يحضر اجتماعات الديوان السياسي والهيئة السياسية دون أن يكون عضوا فيهما.
مع دخول صيف 1955 مرت الإمبريالية الفرنسية بأضعف مراحلها وذلك بعد أن تكبدت خسائر كبيرة في هزيمة شنيعة في الفتنام مما دفع بالحكومة الفرنسية إلى الدخول في مفاوضات مع بورقيبة حول الاستقلال الداخلي إلى أن أفضت في 3 جوان 1955 إلى إبرام اتفاقية الاستقلال الداخلي وقد نصّت تلك الاتفاقيات على استرجاع الدولة التونسية لجميع صلاحيات سيادتها الداخلية، غير أنها أبقت لفرنسا امتيازات كبيرة أمنيّة وعسكرية وسياسية. سارع إثرها بورقيبة بمطالبة المقاومين المسلحين « الفلاقة « بالنزول من الجبال، وتسليم أسلحتهم لإنهاء المقاومة المسلحة.
أما الزعيم صالح بن يوسف الموجود آنذاك بسويسرا والذي كان أميناً عاماً للحزب الحر الدستوري، فقد عبّر عن معارضته التامة لاتفاقيات الاستقلال الداخلي متهما بورقيبة ب «الخيانة الوطنية»، وحاثّا المقاومين على مواصلة الكفاح المسلح من أجل الحصول على الاستقلال التام لا بالنسبة لتونس فحسب، وإنما لجميع البلدان المغاربية.
وقد لقي موقف صالح بن يوسف في البداية تجاوباً عند الكثيرين، خصوصاً أن الاتفاقيات كانت تنصّ على ضرورة تقيّد تونس بمعاهدة باردو التي تمّ بموجبها دخول الاستعمار إلى البلاد، كما أنها تمنح فرنسا سلطة الإشراف على الأمن الجوي والبحري، وتخوّل لها مواصلة نفوذها وسلطتها على المؤسسات الأمنية. وقد صرح بعض جماعة الحزب القديم الذي كان يتزعمه الشيخ عبد العزيز الثعالبي بأن « الاتفاقيات تمثل مؤامرة استعمارية جديدة».
في 28 جانفي 1956، أصدر المنجي سليم الذي كان آنذاك وزيرا للداخلية أمراً باعتقال البعض من أنصار صالح بن يوسف الذي تمكن من أن يتجاوز الحدود متوجها إلى طرابلس ومنها إلى القاهرة. وقد التحق الطاهر الأسود وهو أحد قادة الحركة الوطنية المسلحة بصالح بن يوسف في القاهرة أما بقية أنصاره في تونس فشهدوا حملات اعتقالات واسعة وتصفيات جسدية سواء عن طريق الاغتيال وتحت التعذيب بصباط الظلام بنهج الباشا بقلب المدينة العتيقة بالعاصمة اخضع العديد من أنصار صالح بن يوسف إلى عمليات تعذيب وحشية قضى البعض منهم بسببها.
وقد ازدادت مواقف بورقيبة صلابة عندما قبلت فرنسا منح تونس استقلالها التام وذلك بعد مضيّ 9 شهور فقط على إمضاء اتفاقيات الاستقلال الداخلي ومن المؤكد أن وضع المنطقة برمّتها كان عاملاً حاسماً في ذلك، فقد كانت نيّة فرنسا هي الانفراد بالجزائر، حيث كانت حرب التحرير الشعبية على أشدها هناك وكانت تعلم جيدا أنه يصعب عليها مواجهة البلدان المغاربية مجتمعة لذا عجلت بمنح المغرب ثم تونس استقلالهما مانحة بذلك بورقيبة فرصة تحقيق انتصار سياسي آخر خوّل له شرعية قيادة البلاد.
اغتيال بن يوسف
مع مطلع صيف 1961، بدأت تونس تعدّ نفسها لخوض معركة الجلاء عن بنزرت، وبفضل ذلك تمكن بورقيبة من كسب تأييد واسع في الداخل والخارج، من ذلك تأييد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي كان يحتضن صالح بن يوسف ويدعمه مادياً ومعنوياً. وبما أن الرأي العام التونسي والعربي وحتى العالمي كان منشغلاً بهذه المعركة الجديدة بين تونسوفرنسا فإن مدبري مؤامرة اغتيال صالح بن يوسف سارعوا بتنفيذها بعد أن أعدوا خطة محكمة لذلك. ففي 2 جوان 1961 غادر الزعيم صالح بن يوسف القاهرة مع زوجته متوجها إلى ألمانيا قصد عرض نفسه على طبيب خاص وبعد ذلك بحوالي شهرين وتحديدا في 11 أوت كان بن يوسف يتهيأ للسفر إلى كوناكري لحضور مؤتمر الحزب الديمقراطي الغيني بدعوة من الرئيس أحمد سيكو توري في ذلك اليوم اتصل به قريبه البشير زرق العيون الذي كان يعيش في ألمانيا طالباً منه بإلحاح شديد مقابلته بهدف الإعداد للقاء جديد بينه وبين الرئيس بورقيبة. وقد وافق الزعيم صالح بن يوسف على ذلك اللقاء الذي اتفق على أن يتم في الساعة السادسة مساء في فندق « رويال» بمدينة فرانكفورت الألمانية.
وصل الزعيم صالح بن يوسف إلى الفندق المذكور في الموعد المحدد، وكان أول شيء لفت نظره هو أن ليس هناك صالون، لذا طلب من زوجته أن تنتظره في مقهى مجاور مؤكداً لها أنه لن يتأخر أكثر من نصف ساعة. بعدها صعد إلى غرفة ابن أخت البشير زرق العيون، وعند وصوله إليها تبين له أن البشير زرق العيون ليس موجوداً، فلما استفسر عن سبب ذلك، ردّ عليه ابن الأخت بأن خاله لن يتأخر طويلاً وأنه في الطريق إلى الفندق. فلما جلس الزعيم صالح بن يوسف على المقعد، خرج له قاتلان من غرفة الحمام التي كانت خلفه ليردياه قتيلاً بكاتم الصوت.
وفي خطاب له سنة 1973 اعترف الرئيس بورقيبة بمسؤوليته عن اغتيال الزعيم صالح بن يوسف في سابقة خطيرة يتبجح فيها مجرم بجريمته وهنأ القتلة وكرمهم بمنحهم الأوسمة وعلى رأس المسؤولين قريب بن يوسف بشير زرق العيون وهو أحد أعوان بورقيبة الأكثر اخلاصا وكذلك وزير الداخلية الطيب المهيري بالإضافة إلى مسؤولين آخرين لا يزالون إلى اليوم على الساحة السياسية ساهموا في اجتثاث اليوسفية بتصفيات جسدية والتعذيب في السجون.