تونس الشروق: عند كل جريمة تُثار في تونس مسألة العفو عن المساجين ومدى اهلية بعض المتمتعين بالعفو بالحق في الحرية ما داموا سيعودون للجريمة؟ فالمجرم يبدو انه «وُلد ليكون مجرما» وفقا للكثير من التونسيين. هذه المقولة أسّس لها عالم الاجرام الإيطالي تشيزري لومبروزو صاحب نظرية «الرجل المجرم» والذي يرجع له الفضل في نشأة المدارس التكوينية والتي أطلق عليها البعض اسما في نظريات تفسير السلوك الاجرامي وذلك منذ عام 1876. ويبدو ان الكثير من التونسيين مقتنعون بنظرية لومبروزو حتى دون معرفتها فصاحب السوابق يرون فيه مجرما لا يستحق الحرية وهو عاجلا ام اجلا سيعود لمناخ الجريمة وفقا لمخاوفهم. ولئن بدت بعض هذه المخاوف مبرّرة خاصة بعد ان عاد البعض من المتمتعين بالعفو الخاص للتورّط في جرائم حق عام كالاغتصاب والسرقة وخاصة بعد ان تورّط الكثير من المتمتعين بالعفو التشريعي العام في قضايا إرهابية هدّدت امن واستقرار البلاد مثل سيف الله بن حسين المُكنّى بابي عياض زعيم تنظيم أنصار الشريعة الإرهابي فإن بعض المخاوف لا تبدو مبررة بل هي تشرّع للجريمة على حد قول الدكتور سامي نصر الباحث في علم الاجتماع. الإرهاب شمل العفو التشريعي العام مجموعة من الإرهابيين (من ضمن حوالي 10 الاف مفرج عنهم في إطار العفو التشريعي العام سنة 2011) الذين شكلوا لاحقا مجموعات مسلحة في البلاد ونفّذوا عمليات إرهابية اضرّت بالاقتصاد وهددت الامن الوطني وقد مثّل ذلك الصفعة التي لم يستطع البعض من التونسيين تحمّلها بعدُ خاصة ممن فقدوا أبناءهم في معارك إرهابية خارج ارض الوطن. إذ تقول ياسمين وهو اسم مستعار لطبيبة أطفال انها فتحت نقاشا يوما ما مع أحد مرضاها من الأطفال وهو ينحدر من اسرة ثرية. يحمل هذا الطفل اسم سيف الله وهو خجول من اسمه ويطلب من والديه باستمرار تغييره باسم وسام. تناديه طبيبته بالاسم الذي يريده: «وسام لماذا لا تحب اسم سيف الله» فيرد بثقة تفوق سنه (عمره 6 سنوات) لأنه اسم شخص إرهابي ومجرم خطير كان مسجونا ولكنهم أطلقوا سراحه ليصبح وحشا وقد كان ينوي اختطاف كل الأطفال وتحويلهم للجبل وحرمانهم من المدارس وتدريبهم على السلاح كي يقتلوا التونسيين». روت ياسمين هذا الموقف بعين دامعة قبل ان تضيف: سألته من اخبرك بهذه القصة؟ فيرد «مامي» ويقصد حاضنته الستّينية التي فقدت ابنها في سوريا بعد ان تم استقطابه من قبل تنظيم أنصار الشريعة الإرهابي ثم تسفيره للمشاركة في الحرب الاهلية بسوريا حيث لقي مصرعه في معركة عين العرب. تقول ياسمين بصوت متأثر انها ارادت لقصة هذا الطفل ان تُنشر ففيها وعي بمخاطر الإرهاب لدى أطفالنا وفيها أيضا وجع الالاف من العائلات التونسية التي دمرها الإرهاب اما باستشهاد أبنائها في المعارك ضد الإرهاب او باستقطاب أبنائهم وتسفيرهم لتوظيفهم في معارك إرهابية داخل وخارج ارض الوطن. فتح تحقيق من هنا تراكمت مخاوف التونسيين وهو يُحمّلون السلطات مسؤولية ما حصل. يقول منذر وهو مهندس شاب ان «الشجاعة الحقيقية للمسؤولين هي فتح هذا الملف الذي كاد يُطيح بالدولة فالعفو التشريعي العام كانت كلفته اقتصادية وخاصة مالية من حيث تدهور وضع الميزانية العمومية بسبب التعويضات وكذلك كلفته اجتماعيا من حيث عدد الشهداء في المعركة الإرهابية والعدد الكبير للشباب والأطفال المغرر بهم والذين تم استقطابهم وتسفيرهم الى سوريا وليبيا. رسميا تقول مصادر مطلعة انه لابد من فتح هذا الملف وتحميل المسؤوليات فاطلاق سراح إرهابيين في تلك الفترة تبدو مسالة غير واضحة وقد كانت لها تبعات اقتصادية وامنية وسياسية خطيرة لاحقا. فلماذا شملهم العفو وفي مقدمتهم سيف الله بن حسين في الوقت الذي تستثني فيه القوانين المتورطين في جرائم إرهابية من العفو وبالتالي أصبحت المسالة مسالة امن قومي؟ ام اننا استسهلنا العنف فشرّعنا له آنذاك الأبواب؟ ماليا بلغ حجم التعويضات ل2729 منتفعا بالعفو التشريعي العام 119 مليون دينار بالإضافة الى 30 مليون دينار كهبة من دولة قطر. كما بلغ عدد الانتدابات المباشرة في الوظيفة العمومية للمتمتعين بالعفو التشريعي العام 58500 وانتفع 2268 بآلية «إعادة تكوين المسار المهني» من المنخرطين في صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية وصندوق الضمان الاجتماعي وفقا لما كان قد صرح به سيد بلال المكلف بالملف الاجتماعي في حكومة يوسف الشاهد. وينظر للعفو التشريعي العام من زاويتين زاوية إيجابية جوهرها العدالة الانتقالية من حيث استرداد أصحاب الموقف المعارض من مساجين راي ومساجين سياسيين لحقوقهم ومن زاوية ثانية سلبية بعد ان مثل العفو مدخلا لتهديد امن البلاد. استجابة للضغط لاحقا اثار العفو الخاص الذي يمنح الفصل 372 من المجلة الجزائية صلاحيته لرئيس الجمهورية (حق العفو الخاص يمارسه رئيس الجمهورية بناء على تقرير من كاتب الدولة للعدل بعد أخذ رأي لجنة العفو) انتقادات واسعة خاصة مع تزايد تورط مفرج عنهم في جرائم جديدة الامر الذي جعل حقوقيين ونشطاء يطلقون صيحة فزع في 2013 لضرورة مراجعة مقاييس العفو لضمان أهلية السجين على طي صفحة الاجرام وذلك حتى لا يتحول العفو من نعمة الى نقمة. وقد مثل العفو الخاص عن المساجين في المناسبات الدينية مصدر جدل سياسي خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد ان جعله الفصل 77 من دستور 2014 إحدى صلاحيات الرئيس. وتواجه الرئاسة انتقادات واسعة منها القول بان العفو أصبح يتم وفقا للمحاباة و"المعارف" بدل الخضوع الى مقاييس تحصّن المجتمع ضد الجريمة وذلك بمنع وقوعها. وقد أوضحت مصادر مطلعة من رئاسة الجمهورية ل"الشروق" انه يتم اعتماد مقاييس محددة في عملية العفو وذلك وفقا للسياسة الجزائية والسجنية أي وضع السجون وطبيعة الجرائم وذلك بالتعاون مع لجنة مكلفة بالعفو صلب وزارة العدل وكذلك اللجان الجهوية للعفو. وذكر مصدرنا ان المورطين في جرائم القتل وحمل السلاح والإرهاب هم مستثنون من عملية العفو. ويتم اعتماد مقاييس مثل طبيعة الجريمة ومدة العقاب وسلوك السجين وهل ان المتهم مبتدئ او عائد ويتم الاشتغال على مطالب العفو وفقا لهذه المقاييس. كما أوضح مصدرنا ان العفو الخاص لا يؤدي بالضرورة الى إطلاق السراح بل فيه أيضا التخفيف من العقوبة. وعموما هناك قضايا، مثل استهلاك مادة القنب الهندي لأول مرة وقضايا العنف، لا تستحق السجن بقدر ما تستوجب عقوبات بديلة وفقا لمراقبين وذلك لتخفيف الضغط على السجون. ويجد المشتغلون حول ملف العفو الخاص أنفسهم في مواجهة ضرورات تنفيس السجون بسبب حالة الاكتظاظ في سجون الإيقاف والسجون التنفيذية وبالتالي يتم اختيار قضايا بعينها ليشملها العفو ومنها جرائم الشيك دون رصيد مؤخرا شرط خلاص الدين. وبالتالي أصبح العفو ضرورة لتفادي حالة الاكتظاظ الشديد في السجون. غياب آليات التأهيل تقدر نسبة العودة للجريمة في تونس ب 45 بالمئة وفقا للمرصد الاورومتوسطي لحقوق الانسان وفسّر المرصد هذه النسبة ب «افتقار السجون لكل اليات تأهيل السجناء وغياب استراتيجية التدريب والتكوين» لضمان الاندماج لاحقا. ويمثل وضع السجون سببا من أسباب العودة للجريمة اذ يفوق عدد السجناء الطاقة الاستيعابية للسجون والمقدر عددها ب 27 سجنا من بينها 19 مركز إيقاف تحفظي و8 سجون تنفيذية فيما يفوق عدد السجناء 25 ألف سجين. وتستوعب السجون في الظروف العادية 16 ألف سرير الامر الذي جعل نسبة الاكتظاظ في سجوننا في حدود 150 بالمئة وتصل أحيانا بالنسبة للمرصد الاورومتوسطي لحقوق الانسان 200 ٪. هذا الاكتظاظ جعل من تونس تحتل المرتبة الرابعة عربيا بمعدل 212 سجينا لكل 100 ألف مواطن وفقا للمركز الدولي لأبحاث السياسات الجنائية الصادر سنة 2016. في المحصلة يمثل العقاب في القانون التونسي «غاية نبيلة هدفها إعادة المجرم الى الجادة» لكن هذه الغاية النبيلة تصطدم بواقع مشوه في السجون لتصبح العقوبة ليست ذات نجاعة ومع غياب برامج التأهيل والتكوين والاعداد للحياة ما بعد السجن ثم المتابعة ما بعد مغادرة السجن تصبح العودة للجريمة ممكنة وذلك سواء بالنسبة للمتمتعين بالعفو وأيضا بالنسبة لمن استكملوا عقوباتهم وهنا ترتفع نسبة العودة للجريمة لتصل 45 ٪. الباحث في علم اجتماع الجريمة سامي نصر ل«الشروق» .. نحن نشرع للجريمة يستشعر التونسيون الخوف من مناخ العنف الذي أصبح يتنامى في البلاد وفقا لتقارير حقوقية ورسمية. وتزداد هذه المخاوف مما يُثار حول مسألة العفو الخاص والعام خوفا من ان يكون العفو فرصة لإطلاق سراح مجرمين سيعودون للجريمة ان عاجلا ام آجلا. حول مجمل هذه المخاوف كان لنا هذا اللقاء مع الباحث في علم الاجتماع الدكتور سامي نصر: تحدثت مؤخرا عن زيادة بنسبة 6.8 بالمئة في معدل الجريمة الى غاية 2017 من اين جاءت هذه النسبة؟ من المؤشرات الصادرة عن وزارة العدل حول القضايا المتعهد بها وهذه النسبة تخص الزيادة في المعدل العام للجريمة لكن الأخطر في تونس هو زيادة جرائم العنف بنسبة 70 بالمئة أي ان من كان يسرق بشكل عادي أصبح يسلب تحت التهديد والعنف أي ان العنف أصبح وسيلة استراتيجية في الجريمة. علما وان نسبة نمو الجريمة في العالم هي في حدود 5 بالمئة وهذا يعني اننا تجاوزنا هذه النسبة العالمية. اين موقع المتمتعين بالعفو سواء التشريعي او الخاص من هذه النسبة؟ الخطر في تونس اننا لم نعد ننظر الى فظاعة الجريمة بل الى مرتكب الجريمة وهذا امر خطير جدا وما يخيفنا في علم الاجتماع هي شرعنة الجريمة فكأننا اعطينا الشرعية للجريمة يعني بسطناها والحال اننا يجب ان ننظر الى بشاعة الجريمة قبل مرتكبها ومطلوب الابتعاد عن التوظيف السياسي حتى لا نضاعف من سقوطنا في الشعبوية. فمنظمة العفو الدولية وهي اكبر المنظمات المشتغلة في مجال حرية السجناء تستعمل مصطلحين اثنين هما سجين الرأي والسجين السياسي اما الأول فتنادي باطلاق سراحه والثاني تطالب بمحاكمته محاكمة عادلة. وملف العفو التشريعي العام شمل الاثنين سجناء الراي والسجناء السياسيين وهو ملف يجب فتحه فالعفو خضع للشعبوية واصبح فيه تكتيك انتخابي وليس هناك معايير ولا مقاييس لمسألة العفو.