جاء تفجير انتفاضة الأقصى يوم 28 سبتمبر من عام 2000 اثناء زيارة شارون بتخطيط من العدو الصهيوني الى حرم المسجد الاقصى المبارك، وبعد ان رفض الرئىس ياسر عرفات الاملاءات الامريكية في لقاء كامب ديفد الثانية التنازل عن مبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والقدس، والحدود. وانخرطت كافة شرائح الشعب الفلسطيني في المواجهات كرد طبيعي على هذا الاستفزاز، وعلى التعنت ومراوغة الكيان الصهيوني فيما يتعلق باتفاقيات عملية السلام، وتصدّت الانتفاضة في البداية لقوات الاحتلال بالحجر والصدور العارية قبل ان ينتقل فعلها الى عمليات قتالية ردّا على القصف الهمجي وعمليات التدمير والاغتيالات والاعتقالات. وعندما تصاعدت وتيرة المواجهات زار المنطقة عدة وفود دولية وأمريكية حاملة مبادرات لوقف المواجهات، ووضع حد لإنهاء الحصار والاحتلال وبناء المستوطنات، ومن بينها مبادرات ميتشل، وتينت، وآخرها خريطة الطريق، ولكن الكيان الصهيوني افشل كل هذه المبادرات، وأمعن في الارهاب والقتل والتدمير والاجتياحات والحصار، معتقدا انه سيركع الشعب الفلسطيني ويفرض عليه السلام الاسرائىلي الامريكي، ولكن شعب الجبارين وقف شامخا وصامدا ومضحيا وقدم 3850 شهيدا و65 الف جريح، و8 آلاف معتقل، ودمّر له العدو 60 الف منزل ومؤسسة وورشة عمل، واقتلع اكثر من مليون شجرة، وجرف الاراضي الزراعية، وأغلق المدارس والجامعات، وهدم آبار المياه والمعابد، وأقام 750 حاجزا على الطرقات ومداخل المدن والتي توفي عليها 43 مواطنا، وانجبت على مداخلها عشرات الأمهات الحوامل، وصادر مئات الآلاف من الدونمات لبناء المستوطنات والطرق الالتفافية وجدار الفصل العنصري التي بلغت نسبة ما صادره من اراضي الضفة الغربية منذ عام 1967 باسم «أراضي الدولة» 41 اي مليونان ومائتي الف دونم. ورغم ذلك لقد جذّرت الانتفاضة ثقافة المقاومة في كل بيت فلسطيني وعربي، وأعادت القضية الفلسطينية الى صدارة الاهتمام الدولي وكسبت الانصار في الساحة الدولية من حولها، وجسدت الوحدة الوطنية في ساحة المواجهات، واحدثت تغيّرا في كل مناحي الحياة، واعادت الاعتبار الى المقاتل الفلسطيني، واحدثت ازمة اقتصادية خانقة للعدو، حيث بلغت خسائر البنوك الاسرائىلية سبعة بلايين دولار، وسادت ظاهرة الهجرة المعاكسة، واعلنت العائلات الراغبة في ترك البلاد انها لا تجد مستقبلا لأولادها في هذه الدولة، واصبحت 370 الف عائلة يهودية في حالة فقر مدقع اي اصبح 40 من الاسرائىليين تحت خطر الفقر، وبلغت خسائر العدو البشرية اكثر من الفي قتيل وسبعة آلاف جريح، واغلقت عدد من مؤسساته التجارية والاستثمارية والصناعية، واغلقت مكاتب السياحة، وتدهورت عجلة النمو الاقتصادي، وتفشت البطالة بين صفوف العمال، وانتاب الخوف كافة تجمعاته، ورفض الخدمة العسكرية في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية آلاف المجندين والضباط. وقد اشار المحلل السياسي الاسرائىلي بن كيسييت في مقالة له نشرت في صحيفة «معاريف» بقوله: «خلال السنوات الاربع الاخيرة اصيب مواطنون اسرائىليون اكثر مما اصيب خلال ال 52 سنة منذ تأسيس الدولة، هذا العدد مذهل... الانتحاريون الفلسطينيون نجحوا اكثر مما نجحت فيه سبعة جيوش عربية خلال خمس حروب مضت». وأمام هذا الواقع الذي احدثته الانتفاضة، واخفاق شارون في تحقيق الأمن والسلام وانهاء الانتفاضة في مائة يوم كما وعد، فقد صوابه فعمد الى فك الارتباط من جانب واحد، وسحب قواته من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات التي تشكل عليه عبءا بشريا وماديا نتيجة ضربات الانتفاضة الموجعة، كما اوعز لقوات الاحتلال بتصعيد عدوانها واغتيال القيادات والرموز والكوادر داخل الاراضي المحتلة وخارجها كما حدث بالأمس في دمشق، واعتقال مئات المناضلين، واجتياح مزيد من المناطق وتدمير المنازل والمؤسسات في الضفة والقطاع، وآخرها وليس آخرا ما جرى في خان يونس من تدمير 50 منزلا على ما يملكه اصحابها من أثاث وشهادات وكتب مدرسية وأدوية، اذ لم يمهل العدو سكانها سوى 5 دقائق للخروج من المنازل، حيث خرجوا في ظلمات الليل حفاة عراة مذعورين مع اطفالهم لا يلوون على شيء سوى ثياب نومهم، مع ان هذا المشهد المأساوي يتكرر كل يوم. وهذا يذكرنا بانطباع وزير عدل الكيان الصهيوني يوسف لبيد الذي تذكّر جدته التي كانت احدى ضحايا الهولوكوست عندما شاهد صورة عجوز فلسطينية تحبو على ركبتيها بحثا عن ادويتها التي ضاعت بين انقاض منزلها الذي هدمته قوات الاحتلال. ان مثل هذه الاعمال قد فاقت اعمال النازية، وليس من العدل ان نقول ان هتلر مجرم حرب... وان لا نقول ان شارون مجرم.. ان شارون اكبر مجرم في هذا العصر، وقد مارس الهولوكوست في مذابح صبرا وشاتيلا بيده في مثل هذا الشهر من عام 1982، ويبدو انه قد تعلّم كبقية من سبقوه من رموز الارهاب الصهيوني فنون الاذلال والجريمة من قاتليهم. اذ ان الصهيونية المعاصرة والكيان الصهيوني يختلفان في التفاصيل مع النازية ويتفقان في الجوهر. وتشير المعلومات ان موفاز واركانه يخططون لاجتياح جديد للقطاع ومناطق في الضفة الغربية بهدف تنظيفها من المقاومين قبل انسحابهم من قطاع غزة حسب قولهم. وقد غاب عن موفاز ان دخول غزة لن يكون نزهة او الطريق اليها مفروشا بالورود، وانه اذا دخلها لن يخرج منها حيّا. ورغم هذا التهويل ان الانتفاضة ماضية في طريقها وصامدة، وهي تواصل تشييع الشهداء صباح مساء، ويبدو ان الفريق الذي اختاره بوش في نظام حكمه قد خانه وخان امريكا واستخدمه هذا الفريق لتنفيذ رغبات الكيان الصهيوني، وتسقطه في كراهية العرب والمسلمين باسم الحرص على أولوية اسرائىل في الأجندة الامريكية، واصبح سجين زمرة من المتطرفين والمتعصبين للكيان الصهيوني، واصبحت امريكا تبرّر ارهاب شارون في المحافل الدولية وتعتبره حقا مشروعا للدفاع عن النفس، حيث ادى سلوك بوش وتعاونه مع شارون وتشجيعه على قصف المدن والقرى والمخيّمات وتدمير البيوت على رؤوس اصحابها الى انهيار ابسط القيم الاخلاقية والانسانية، واصبح العالم في حال من الضياع الأخلاقي وهو يشاهد كيفية ارتكاب ابشع الجرائم بلامبالاة بالضوابط والشرائع في فلسطين والعراق، ويؤكد الكاتب الامريكي توماس فردمان على ذلك بقوله: «نحن مهددون بخسارة تتعدى الحرب في العراق... نحن مهددون بخسارة امريكا كأداة للمرجعية الاخلاقية، وكمصدر للإلهام في هذا العالم، لم اعرف في حياتي كلها لحظة كانت فيها امريكا ورئيسها هدفا لمثل هذه الكراهية الطاغية كما هي حالها اليوم. هذه الارادة تحتاج الى اجراء تغيّر جوهري على سياستها والا فإنها تقودنا جميعا نحو الكارثة». لذا ان انتشال القرار السياسي الامريكي من هيمنة الحركة الصهيونية المتعاونة مع المحافظين الجدد والمتعصبين للكيان الصهيوني، مرهون بقادة الفكر الامريكي ومثقفيه وسياسييه للعمل لتغيير الخطاب الامريكي ووضع حدّ لهذه الهيمنة والضغط على شارون للانصياع للشرعية الدولية، حيث ان هذا المجرم مازال ينتهج منطق القوة العمياء التي لن تؤدي الى سلام متوازن وانسحاب كامل من الاراضي الفلسطينية والعربية بل الى كوارث ودمار ومجازر. وإذا بقيت امريكا على هذا النهج وتشجع الكيان الصهيوني على الارهاب وما دام القرار الدولي مقبوضا عليه من قبل الدولة الأعظم فإن اي حل للسلام في المنطقة لن يرى النور، وسيبقى الوضع على حاله ما دام الآخرون عربا وعجما وأجانب ينطبق عليهم قول الشاعر العربي «لا خيل عندي اهديها ولا مال... فليسعف النطق ان لم تسعف الحال». ان الشعب الفلسطيني يخوض معركة وجود وبقاء فوق ارضه ويتطلع الى تحرير وطنه ويتمسك بثوابته الوطنية رغم كل الضغوط، ورغم ما يكتنف النظام الرسمي العربي من صمت مخيف عما يجري في فلسطين، وإحجامه عن تقديم الدعم الجدي للانتفاضة الا اللهمّ تعبيرات اعتاد المواطن العربي سماعها عبر الفضائىات ووسائل الاعلام مثل «نستنكر» و»نشجب» و»أمر لا يمكن السكوت عليه» وكأن هذا النظام الرسمي يريد من الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية التنازل عن حقوقه المشروعة، ليقال ان الفلسطينيين هم الذين فرطوا في حقوقهم ومقدّساتهم، وما دام الامر كذلك فلماذا نكون فلسطينيين اكثر من الفلسطينيين.. لقد غاب عن هؤلاء ان الشعب الفلسطيني يخوض معاركه البطولية وانتفاضاته المتلاحقة منذ اكثر من مائة عام ولم يرفع الرايات البيضاء ويستسلم... وسيبقى في كفاحه حتى تحرير وطنه واقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.