ألقت إشارة رئيس الجمهورية الاستاذ الباجي قائد السبسي الأخيرة الى انتهاء التوافق بينه والأستاذ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة بظلالها على جزء هام من الحراك السياسي والتصريحات خلال الاسبوع الحالي. وتؤكّد ردّة الفعل المتناقضة، استبشارا أو ابتهاجا وتخوّفا أو ارتباكا، حيال هذا الطارئ أهميّة ما كان يجمعُ بين الشيخين سواء أكان ذلك الأمر إيجابيا محققا للمكاسب أو سلبيا مانعا لها. تجاذبات البداية والنهاية وفي واقع الأمر فإنّ توافق الشيخين منذ انطلاقه في أوت 2013 كان محل تجاذبات البعض منها كان عنيفا بلغ درجة الانتقاد والقَدْح والمساءلة الدائمة وبعضها الآخر كان مادحا ممجّدا، لذا كانت ردود الفعل حيال انقطاعه حدثا لافتا ومبعثا لكل تلك الانشغالات المرحبّة والمتخوّفة. ثلاثة مواقف حيال قطع التوافق ماثلة الآن تحملُ إلى فرضيات تخمين يُمكن صياغتها في الاسئلة التالية: 1 - هل نفرح ونبتهج لتوقّف قطار التوافق بين الشيخين؟ 2 - هل علينا انتظار تبعات سَيِّئَة لذلك التوقّف؟ 3 - هل نستشرف انطلاق ذلك القطار من جديد؟ بالمنطق السياسي، كلّ الاحتمالات تبقى واردة، وحجم ما هو موجود من غموض وضبابيّة في المشهد السياسي وما فيه من تجاذبات وما ينتظر الحياة الوطنيّة من رهانات وما قد يطرأ من مستجدات يجعلُ من ترجيح كفّة أحد السيناريوهات الثلاثة الآن صعبا، فالكثير من الوقائع تدلّ أنّ المشهد السياسي بات سريع التقلّب والدوران وحسابات البعض باتت تحتاج ربّما الى تعديل، فالكثير من الإسقاطات أو الاستشرافات قد لا تكون مبنية على معطيات صحيحة دقيقة. ضرورة تواصل مسار التسويات ولكن ما يُمكن ترجيحه الآن هو أنّ التوافق، كسياسة ومنهج وسياق تسويات وتفاهمات في الحالة التونسيّة، وباعتباره يتجاوز الأشخاص والأحزاب، سيتواصل وان بأشكال وصيغ أخرى، وهذا الاستمرار حتمي لا مفرّ منه لأنّه حاجة لازمة لتخطي ما بقي من استحقاقات الانتقال الديمقراطي، اذ لو ينقطع حبل التوافق بين مختلف القوى الوطنية فقد تذهب البلاد إلى المجهول مثلما أشار الى ذلك عبد الفتاح مورو النائب الأوّل لرئيسي النهضة ومجلس النواب، فالوضعية حرجة مليئة بالتحديات وسبل الخلاص لا يُمكن لأي طرف راهنا وفي المدى القريب أن ينفرد بها لوحده أو أن يتحمّل مسؤوليّة الفشل في تنفيذها. صحيح أنّ توافق الشيخين، الذي كان الأبرز والأهم خلال السنوات الخمس الأخيرة، يمرّ حاليا بفترة دقيقة، ولكنّ روحه وفلسفته من الصعب أن ينتهيا، وسنشهدُ على الأرجح أطورا جديدة له مباشرة إثر انطلاق السنة البرلمانية الجديدة وخاصة في أعقاب توضّح المشهد الحكومي ورسم هويّة واضحة للحكومة، وسط الحديث عن تحوير وزراي مرتقب وأيضا بفعل التأثيرات المرتقبة للكتلة البرلمانية الجديدة (الإئتلاف الوطني). كما أنّ الكثير من المتابعين وحتّى من الفضاء السياسي والحزبي يرجّحون أنّ الفترة الدقيقة التي يمرّ بها توافق الشيخين ظرفيّة وعابرة، وهي ناجمة أساسا على ضغوطات الراهن الاجتماعي والاقتصادي وأيضا كاستتباع طبيعي لتغيّر موازين القوى في البلاد في ظلّ ما يشهدهُ حزب نداء تونس من تجاذبات داخليّة وبحثه عن تموقع جديد في المشهد وأيضا لما افرزتهُ الانتخابات البلدية الاخيرة من صعود لحركة النهضة وتراجع النداء إلى المرتبة الثانية، ويذهب عدد من المتابعين ايضا إلى قراءة مُغايرة للتصريح الاخير للرئيس المؤسّس للنداء كونه لا يخرجُ عن دائرة التوظيف التكتيكي والمرحلي ولا يخرجُ أيضا عن سياق البحث عن لعب دور جديد أو خلط أوراق ظرفي لتجاوز الراهن الصعب للنداء ووقف سيل الاستقالات وإعادة ترتيب البيت الداخلي. واجب ومسؤوليّة وطنيّة كما أنّه من الثابت انّ العلاقة الوطيدة بين الشيخين وما يتحليّان به من حكمة وواجب المسؤليّة الوطنيّة، قبل الحزبيّة والشخصيّة الضيّقة، سيمنعان حتما انهيار سياسة التوافق وسيدفعان ارتباطا بالعوامل الموضوعيّة الضاغطة الى تشكّل جديد لهذه السياسة تتخطّى لا فقط طبيعتها القديمة والتي كانت متميّزة بنوع من اللاتوازن بين طرفيها أي النداء والنهضة إلى توافق متوازن وعادل فيها التنازلات المتبادلة والعادلة، بل تتخطّى ايضا حالة الجمود والفاعلية الميدانيّة في اتجاه التوافق على برنامج عملي للانقاذ الوطني قد تكون قاعدته مخرجات وثيقة قرطاج 2 بنقاطها المتفق عليها (63نقطة). إنّ النموذج أو الاستثناء التونسي كان في القبول بالتسويات السلميّة واعتماد الحوار والبحث الدائم عن التفاهمات منذ قيام الثورة، والواضح أنّه لن يكون هناك بديل عن استمرار الحوار لأنّه المدخل الوحيد لتحقيق النجاح وتأمين الاستقرار والابتعاد بالبلاد عن كلّ اشكال الفوضى، ذلك أنّ التجارب المقارنة تؤكّد أنّ أكثر من 70 % من الثورات وتجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة هي تلك التي اختارات سياسة التوافق ومنهج التسويات السلميّة. الخطر في القطيعة وتخريب سياسة التوافق وأمام فقدان البدائل، فإنّ الخطر الحقيقي يكمنُ حاليا في الذهاب الى تخريب سياسة التوافق، خاصة تلك التي بين الشيخين، وهدمها مرّة واحدة تحت أيّ عنوان كان، فلقد دعا الكثيرون الى ضرورة استئناف الحوار بين الشيخين وبين مختلف القوى الوطنية في أسرع الأوقات، فالأزمات الاقتصاديّة والاجتماعية عديدة ومؤسّسات الحكم ليست على أفضل حال، كما أنّ التجربة الديمقراطيّة ما تزال هشّة والاستحقاقات الانتقالية لم تنته بعدُ والأبرز منها استكمال مسار العدالة الانتقاليّة بتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة وتركيز المحكمة الدستوريّة وتامين وصول البلاد بسلام الى الموعد الانتخابي الرئاسي والتشريعي نهاية العام القادم. ننتظر إذن انطلاق قطار التوافق من جديد، لا يهمّ في ذلك الراكبون فيه والمتخلّفون عنه بل المهم في أن يُدعى الجميع لامتطائه مع وضوح الرؤية وبوصلة المسار والبناء على ما راكمته تجربة السنوات الخمس الأخيرة من ايجابيات.