جاء في محكم تنزيله: «والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون» وله في خلقه شؤون وعبر لأولي الألباب كالتي سنستعرض منها مثالين لتأكيد ذلك. لقد شاء قدره أن أعيش مراهقة مسكونة بثقافة متقدمة كانت سببا في تعلقي باكرا بدنيا الإذاعة وبرامجها الهادفة وقتها مما جعلني أحرص على سماع برامجها التي كانت تجمع بين التثقيف والترفيه والتي أتاحت لي فرصة فريدة من نوعها للتمتع بحديث نادر عن وفاء كلب جزيرة جالطة لصديقه الزعيم بورقيبة الذي نفته فرنسا بها عقب اندلاع أحداث الثورة التحريرية المسلحة. كانت جزيرة «جالطة» النائية عامرة بمختلف الجاليات الأجنبية وبخيرات أرضها وبحرها وبحكم طول مدة نفي بورقيبة نسبيا توطدت العلاقة بينه وبين هذه الجاليات. فأصبحت تتعهده بالغذاء واللباس والمؤانسة في وحدته القاسية. وفي الأثناء ألفه كلب أحد الجاليات لحسن معاملته له. فأصبح صديقا وفيا وحارسا أمينا له لا يطيق له فراقا. ولما علمت فرنسا أن بورقيبة لم تنقطع صلته برفاقه في معركة التحرير على الرغم من بعد الجزيرة وصعوبة الوصول إليها غيّرت منفاه بمنفى أبعد منه. فبقي صديقه وحيدا يترجع مرارة الفراق والوحدة. وضاقت به الجزيرة بما رحبت. فأخذ يجوبها ليلا ونهارا نابحا وعاويا عواء مرا. ثم غاب عن الأنظار. وبعد مدة عثر عليه ميتا كمدا وحزنا على فراق صديقه ووفاء لعشرته ومعاملته الطيبة له. وفي خضم هذا عادت بي الذاكرة سريعا إلى أيام الطفولة. فأخذني بساط الريح في غفلة من الزمن إلى ربوع بلادي الفيحاء وأهلها المهمشين من زمان والذين نسوا أنفسهم وبلدهم فنستهم الحياة من غير أن أستثني نفسي منهم. لهذا لم يبق في الذاكرة من تلك الربوع العامرة بعبادها وحيواناتها إلا ذكرى مناظرة ال"سيزيام" (شهادة ختم التعليم الابتدائي وقتها )وإن نسيت فلن أنسى اختبار مادة الإملاء بالفرنسية (Dictée) والذي كان تحت عنوان صديق ضائع (Un ami perdu). وهي فقرة مقتطعة من رواية الغريب (L'étranger) للكاتب الجزائري الفرنسي لألباركامي Albert Camus والتي تحدث فيها عن معاناة كلب وفيّ من معاملة فظّة من صديقه الشيخ «صلامنو» Le vieux Salamano الذي كان لا أهل له إلا صديقه هذا والذي كان لفرط إدمانه على الخمر يسبه وينهره إلا أن الكلب كان يصر على ملازمته كظله لحراسته من كل مكروه وفاء لصداقته له. إن قيمة الوفاء التي خص الله بها هذه الفصيلة من الحيوانات الأهلية وأسكنها غريزتها للاعتبار بها قد خص بها الإنسان وأسكنها عقله الذي ميزه به عن سائر مخلوقاته. فكان من الأجدر به العمل بها في السراء والضراء إضافة إلى القيم الأخلاقية الأخرى التي انفرد بها تأصيلا لكيان. لكن ما حصل من قبل فئة فاسدة من أبناء وطننا للأسف الشديد بعد اندلاع ثورة شبابنا التي أطاحت بنظام الفساد والاستبداد بغاية تحقيق الشغل والحرية والكرامة الوطنية والتي باركها الجميع ومنّى الشعب التونسي النفس بحياة أفضل ولو دخلنا في تفاصيل ما حدث سيصاب كل عاقل بالذهول. إذ في غمرة الانتشاء بثورة الشباب وفي غفلة من الجميع انقض عليها أباطرة المال الفاسد الجدد والقدامى. وعملوا على تعطيل قوانين البلاد مما جعلها تدخل في فوضى عارمة. وأقدموا على تحويل وجهة الثورة والعبث بأهدافها تكريسا لنزعة الغنيمة التي عششت في أنفسهم الصغيرة. وتمكنوا في وقت وجيز من تكديس ثروات طائلة بممارستهم التهريب والتجارة الموازية التي تسببت في انخرام الاقتصاد الوطني وتدهور الوضع الاجتماعي. وأصبحوا يدينون بالولاء لمن أغدق عليهم الأموال الخارجية لتمويل جمعيات مشبوهة بدل الولاء والوفاء للوطن. وربطوا تحالفات مع مليشيات مسلحة في الجوار مما شكل تهديدا متواصلا لكيان الدولة والأمن ا لقومي. وبهذا أصبحت دولتنا مهددة في كيانها وشعبنا في مصيره. لهذا يدعونا نداء الوطن أن نثوب إلى رشدنا ونستعيد وعينا الجمعي سريعا ونبادر فورا بحشد شعبنا بكل فئاته للانتصار إلى قيمنا وأخلاقنا التي تكرّس حب الوطن والوفاء له باعتباره من الإيمان وأن ننخرط في الحرب على الفساد بكل أشكاله والتي أعلنها رئيس الحكومة يوسف الشاهد منذ توليه مقاليد الحكومة والتي سانده فيها السواد الأعظم من الشعب التونسي وقتها ولا يزال حتى يتساهل هذا الداء الخبيث الذي ينخر جسد المجتمع التونسي الذي خذله من تظاهروا بدعمه إذن ما يمكن استنتاجه من هذه المقاربة القِيمية وأخلاقه ليعيش سالما والقول فيه جميل لأن الأصل في قيام الأمم والدول الأخلاق وفقا لما قال أمير الشعراء أحمد شوقي. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا