خلق الله سبحانه وتعالى الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم والاختلاف أمر ماثل في واقع الناس لا يمكن إنكاره . قال تعالى :( مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ)( الروم:22) وقال أيضا:( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)( هود:118) فلا غرابة أن نجد القرآن الكريم يوجه عنايته إلى الحوار باعتباره الوسيلة الناجعة للتقريب بين الناس حتى ولو كانوا مختلفين في عقائدهم . فالحوار هو الطريق الأمثل للإقناع الذي ينبع من أعماق صاحبه والاقتناع هو أساس الإيمان الذي لا يمكن أن يفرض وإنما ينبع من داخل الإنسان وقدم لنا القرآن الكريم نماذج كثيرة من الحوار : فهذا نوح عليه السلام يجادل قومه: (قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين) وهذا يوسف يحاور صاحبي السجن مستغلا مرافقته لهما وحينما سألاه عن الرؤيا فيقول: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) واستمر عليه السلام يحاورهما في بيانِ عقيدةِ آبائهِ وأجدادهِ من الأنبياء بطريقة مقنعة ومؤثرة على صاحبي السجن مقرونا بمنهجِ الأنبياءِ بثباتهِ على مبدئهِ وأمانته وصدقه في معاملته . وهذا موسى عليه الصلاة والسلام يوصيه ربه: ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ويحاوره فرعون: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى). ويحاور نبيّ الله سليمان الهدهد حين غاب ليعرف سببَ غيابه وناقشه وأرسله إلى بقليس بالرسالة وكانت وصيةُ الله لنبيهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم : (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). كل ذلك يدلّ على أن القرآن الكريم يعتمد كثيرا على أسلوب الحوار في توضيح المواقف وجلاء الحقائق وهداية العقل وتحريك الوجدان والتدرج بالحجة احتراما لكرامة الإنسان وإعلاء لشأن عقله الذي ينبغي أن يقتنع على بينة وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل مَنِ استخدم الحوار على الإطلاق فهو صلى الله عليه وسلم يعلم وظيفة الحوار وفوائده وأساليبه وآدابه وفنونه وقد مارسها على أحسن ما يكون طوال حياته مع أصحابه ومع أعدائه ومع الرجل والمرأة مع الشيخ والطفل على حدّ سواء. ونظرا لقيمة الحوار وفوائده في تقريب وجهات النظر بين المختلفين في الرأي والأفكار فقد وضع الإسلام قواعد للحوار وآدابا منها: تحديد نقطة الخلاف فالحوار لا بد أن يكون له هدف وموضوع ورغبة في الوصول إلى النتيجة وليس لتمضية الوقت أو طلبا للإثارة. ثم لا بد من إحسانِ الظنِ من الطرفين والابتعادِ عن إساءة الظنِ تلك الآفة التي أصبحت مصدرا لكثيرٍ من مشكلاتِنا اليوم وسببا لبعضِ العداوات لأن الهدف من ذلك الوصول إلى الحقيقة ولو كانت نسبية سواء كانت على لسان طرف أو من آخر. قال الإمام الشافعي:( ما ناظرت أحدا قط إلا أحببت أن يُوفَّق ويُسدَّد ويُعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ وما ناظرت أحدا إلا ولم أبال بيّن الله الحقَ على لساني أو لسانه) .كما أن من مبادئ الحوار وآدابه أن يتحلى المتحاورون بالتواضع قولا وفعلا وتجنُّب الإعجابِ بالرأيِّ والغرورِ فالتواضعُ في قبول الحقِ من أي أحد وعدم ازدراءِ الآخرين لمظهرهم أو قلة مكانتهِم وغير ذلكَ .. إذا عرفنا أهميةَ الحوارِ وفوائده فلا بد من الاهتمامِ بِهِ والعنَاية بتطبيقهِ في جميعِ ممارساتنا لحلِ مشكلاتنا نمارسه داخل الأسرة بين الزوج والزوجة بين الآباء والأبناء فإنَ هذا له أكبر الأثرِ على التربية وحسنِ المعاملة فالحوار منهج قرآني في التربية وغرس السلوكيات الحسنة وهو مطية لتآلف القلوب ونشر المحبة بين البشر وبه تتقدم الشعوب والأمم وتزدهر الحضارات الإنسانية وتنأى بنفسها عن الحروب والنزاعات الدموية المؤدية إلى الدمار والخراب .