مثل كل الخُطب السياسية الهامة يكتسي خطاب راشد الغنوشي بعدين أساسيين: بعد حالي وثيق الصلة بما تعيشه البلاد راهنا، وبعد مستقبلي ليس منفصلا هو الآخر عن مجريات العمل السياسي في علاقته بالمواعيد الانتخابية الكبرى للسّنة المقبلة. رئيس النهضة لم يكن بإمكانه تجاهل وضع البلاد الغارقة في الصراعات الداخلية والتي تواجه كل أنواع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وما نتج عن ذلك من ظهور ثقافة الكراهية والضغينة وإرادة الاستبعاد والاستئصال. فكل الأحزاب أصبحت تتراشق بأخطر التّهم وتبذل كل جهدها لمحاصرة بعضها البعض حتى تحولت البلاد إلى محكمة مفتوحة منتصبة باستمرار. ولعلّ ما يثير الدهشة أكبر أننا على بُعْد شهرين أو أقل من الاحتفاء بالذكرى السابعة لثورة الحرية والكرامة، وعلى بُعد خمس سنوات من انطلاق عملية العدالة الانتقالية، والرّؤية لا تنفك تتقلّص والإحساس بانحراف العدالة يشتدّ في ظلّ ممارسات خارجة عن قانون البلاد وتطبيق العقوبة المزدوجة على مسؤولين في النظام السابق، وحسر المسار السياسي في حسابات الفوز الآني بالسلطة.. لتصفية الحسابات. ولا شك كذلك في أن التّهم الموجّهة إلى حزبه بالوقوف وراء اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي كانت حاضرة في ذهن راشد الغنوشي وهو يطلق مبادرته لسنّ قانون عفو تشريعي عام. لكن إذا نظرنا بعين التجرّد والموضوعية فإن قيمة الاقتراح تتجاوز بكثير مصلحة هذا الحزب أو ذاك بما فيها النهضة وتتعدى المرحلة الحالية لتؤسس لمستقبل جديد هو نفسه ذات المستقبل الذي طالبت به أكثر من جهة في الداخل والخارج وكان من المفروض أن يكون واقعنا اليوم لو صدقت وقتئذ العزائم وتغلبت الحكمة، ولو احتذى المضطلعون بالحكم آنذاك حذو بلدان اختارت نهج العدالة الانتقالية مثل إفريقيا الجنوبية أو المغرب الأقصى أو حتى اسبانيا ما بعد الجنرال فرانكو. من هذا المنطلق يكون راشد الغنوشي قد اتّخذ باقتراحه قانونا للعفو العام، مبادرة حكيمة وشجاعة، حتى وإن جاءت متأخرة بعض الشيء، ستساعد البلاد لا محالة على الخروج من مأزق انتاج الأحقاد والأحقاد المضادة وإبعاد سيف ديموقليس العدلي على رؤوس الآلاف من أبناء تونس وتوضيح الأفق وإطلاق الطاقات للعمل والانتاج في كنف الاحساس بالأمن والعدل. والحقيقة ان مقترح رئيس النهضة يجيب عن هذا التساؤل الملح الذي أصبح يقلق بال كل تونسي: إلى متى ستتواصل هذه المساءلات؟ كإجابة قاطعة يعيد الأستاذ راشد الغنوشي العدالة الانتقالية إلى مفهومها الصحيح المرتكز على ثلاثة مقتضيات، أولها الكشف عن الحقيقة، وثانيها الاعتذار لمن أذنب في حق غيره، وثالثها التعويض من الدولة لمن تضرّر. ثم تأتي المصالحة النهائية كتتويج للعملية بأكملها، وتُطوى صفحة الماضي وتُفتح صفحة المستقبل. مثل هذا التذكير بحقيقة العدالة الانتقالية يعيد الأمور إلى نصابها ويوقف انحرافها الواضح نحو الانتقام والتشفّي والاعداد لتأبيد أزمة سياسية قد تقضي على المشروع الديمقراطي الذي لا يمكن أن يُبنى على غير أساس عدل ناجز وعادل. راشد الغنوشي تقدم أكثر لأنه يعلم أن المصالحة ليست نتيجة حتمية لمسار العدالة الانتقالية، وإنما هي سياسة إراديّة وثقافة طوعيّة تقتضي مشاركة الجميع أو الأغلبية في تحديد اللّعبة السياسية واحترام قواعدها، لا سيّما ونحن على أبواب سنة هامّة تتضمن مواعيد كبرى. قبل ذلك لا بدّ من رسم الطريق ووضع العلامات التي يلتقي حولها الجميع بحدّ أدنى من التفاهم والتوافق. وهل أفضل من مصالحة وطنية يحقّقها قانون عفو تشريعي عام؟ راشد الغنوشي، وبالتالي النهضة، يسجلان خطوة حاسمة على الطّريق الصحيح ما كان لحزب آخر من الأحزاب السياسية القائمة أن يخطوها بمثل القوة والمصداقية اللتين تميزان اليوم النهضة وقيادتها. ولعلّ في هذا أكثر من إشارة إلى أن حزب راشد الغنوشي عاقد العزم على لعب الدور الأول في المواعيد القادمة.