زيارة رئيس الحكومة الإيطالي جيوسبي كونتي إلى تونس على غاية من الأهمية واختياره بلادنا كأول وجهة له جنوب المتوسط منذ تعيينه في منصبه يدل على الأولوية التي تعطيها إيطاليا لجارتها الجنوبية و للمكانة الخاصة التي تحتلها بلادنا في المعادلة الإقليمية والدولية في ضوء المستجدات التي تجري في المنطقة والعالم. وهي تقيم الدليل على تواصل العلاقات المتينة بين الجارتين بل واستمرار دعمها بغض النظر على الأنظمة و الخيارات السياسية علما و أن السيد كونتي لا يعد رئيسا للاغلبية البرلمانية في إيطاليا كما يتبادر إلى الذهن بل هو شخصية اعتبارية مستقلة تتولى رئاسة حكومة شعبوية ويمينية متطرفة موزعة بين حركة الخمس نجوم التي تدعي مناهضة النخبوية والمنهجية النظامية وبين رابطة الشمال التي تمثل اليمين المتطرف والعنصري على شاكلة الجبهة الشعبية في فرنسا. و إن الحرص على دعم العلاقات مع تونس رغم خيارات شوفينية ووطنية ضيقة يؤكد أن المصالح تعلو على التوجهات الداخلية و أن الثوابت تبقى و لا يمكن المساس منها و هو ما يدعونا إلى عدم إيلاء تصريحات قد تبدو لنا عنصرية أكثر مما تستحق لأنها لا تعدو إلا أن تكون للاستهلاك المحلي. وإن ما قدمه رئيس الحكومة الإيطالية من دعم لتونس سواء فيما يتعلق بتمويل برامج شراكة بمبلغ 500 مليون دينار في الثلاثية 2017-2020 أو إعادة رسكلة 25 مليون يورو من الدين العمومي في مشاريع تنموية أو فتح خط تمويل ب50 مليون يورو في شكل قرض أو توفير 25 مليون يورو لفائدة المؤسسات التربوية عدا المساهمة في تمويل المشروع الصحراوي»المحدث» في ولاية قبلي أو في مشروع المد الكهربائي بين البلدين وهو مشروع عملاق تبلغ تمويلاته حوالي ملياري دينار تونسي، كل ذلك يمثل استمرارية لما تعودت تقديمه إيطاليا لبلادنا علما وأنها تعد أول مزود تجاري لتونس و أول مستثمر خارجي بأكثر من 800 مؤسسة توفر ما يزيد على- 60 ألف موطن شغل. و إن كانت مواضيع أخرى تشغل بال الإيطاليين في علاقتهم بتونس و منها بالخصوص مسالة الهجرة السرية التي شهدت ارتفاعا ملحوظا في السنة الاخيرة فلم نلحظ تركيزا على المسألة من جانب رئيس الحكومة الإيطالية بل سجلنا انفتاحا من طرفه على وضع اسس مقاربة للهجرة النظامية «بعد القضاء على هذه الآفة» حسب قوله و هو يعني الهجرة السرية وهي مقاربة يحسن بنا أن ننخرط فيها لحفظ حياة و كرامة الشباب التونسي الذي يلقي بنفسه في البحر بحثا عن تحسين أوضاعه المعيشية. لم يطلب المسؤول الإيطالي الكبير إقامة مراكز لإيواء المهاجرين بتونس كما تطالب بذلك عديد الدول الأوروبية وأظنه لم يجرؤ على ذلك لأنه يعرف جيدا الرد التونسي الرافض لهذه المسالة جملة وتفصيلا. و إن هذا الموقف المبدئي غير القابل للنقاش يحسب للدولة التونسية في حين نرى دولا أخرى تقايض دور الشرطي على شواطئها بالأموال التي تغدق بها الدول الأوربية عليها كما هو الحال بالنسبة لتركيا على سبيل المثال. ولئن نالت المسائل الثنائية حيزا هاما من المحادثات التي أجراها السيد كونتي مع الرئيس الباجي قائد السبسي و مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد فإن قدومه إلى تونس في هذا الوقت بالذات مرتبط شديد الارتباط بالمؤتمر الدولي التي تنوي حكومته تنظيمه في مدينة بالرمو يومي 12 و 13 نوفمبر القادم وقد تولى بالمناسبة تقديم دعوة رسمية لرئيس الجمهورية التونسية لحضور هذا المؤتمر. و إن إيطاليا تعلق أهمية خاصة على هذا المؤتمر الذي دعت إليه في ظرفية خاصة و هي ترغب دون شك أن تستمع لمقاربة الرئيس التونسي حول هذا الملف الشائك لا لأن بلادنا هي اقرب دولة لليبيا باعتبارنا شعبا واحدا في بلدين بل لأن الباجي قائد السبسي تميز بنظرة ثاقبة و تحليل موضوعي حكيم في هذا الشأن بينت الايام صحته. الحكومة الإيطالية دعت إلى هذا المؤتمر كل الفاعلين في المشهد الليبي وقد زار روما إعدادا له رئيس حكومة الوفاق الوطني في طرابلس فائز السراج و قائد الجيش الليبي في شرق البلاد المشير خليفة حفتر و كذلك المبعوث الأممي في ليبيا غسان سلامة ومن المنتظر أن تحضر مؤتمر بالرمو شخصيات دولية على راسها رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفاداف فضلا عن رؤساء دول الجوار الليبي او ممثليهم. قد عبرت فرنسا عن دعمها لهذا المؤتمر و لكن المراقبين يعتقدون أنه يندرج في إطار التنافس بين باريس و روما حول ملف يهم البلدين بدرجة أولى خاصة و هما يعدان ليبيا أهم مصدر للنفط لكليهما. وزيرة الدفاع الإيطالية إيلزابيتا ترانتا وهي عضو قيادي في أحد الحزبين الحاكمين شنت منذ اسابيع هجوما لاذعا ضد باريس حيث اعتبرت أن دورها كان كبيرا في حالة الفوضى التي تعيشها ليبيا باعتبار أنها فضلت مصالحها بإطلاق حرب على النظام الليبي عام 2011 دون التفكير في عواقبه. الرئيس الفرنسي إيمانوال ماكرون كان عقد مؤتمرا دوليا حول ليبيا في ماي الماضي في باريس و لكن اغلب الظن أن ما وقع إقراره من خطوات و منها تنظيم انتخابات قبل نهاية السنة هي غير قابلة للتنفيذ في ظل الوضع الأمنى غير المستقر في العاصمة طرابلس خلال الاشهر الاخيرة. إيطاليا تبدو أكثر اطلاعا على الاوضاع في ليبيا بالنظر للتاريخ المشترك بينهما و للقرب الجغرافي مما قد يؤشر لإمكانية نجاحها في البحث عن حلول ممكنة تحظى بموافقة الفاعلين الاساسيين في هذا الملف. في كل الاحوال يجب علينا ان نبقى على نفس المسافة من كل المتنافسين حول الملف الليبي و الذين يضعون مصالحهم قبل أي اعتبار و لنكن حريصين أشد الحرصعلى موقفنا المتوازن الذي يدافع في المقام الأول عن ليبيا و عن مصالح شعبها الشقيق والجار.