منذ إفصاح رئيس الحكومة عن تشكيلة الفريق الحكومي الجديد، تصاعدت علامات الصداع في رأسي السلطة وبدا وكأن حرب الإرادات بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة قد أصبحت مفتوحة... وتلقف الاعلام والساسة والمحللون مؤشرات الصداع هذه لينخرط الجميع في حرب مواقع محمومة تنوعت وتعدّدت فيها الخنادق والاصطفافات... هذا الوضع المتسم بالفوضى العارمة وبما نثره من ضباب كثيف طرح الكثير من الأسئلة التي اجتهد مطلقوها في صب الزيت على النار والبحث عن عناصر التأجيج في معركة حامية بطبعها نتيجة تفرّق السبل بين رئيس الدولة والرئيس السابق (والشرفي حاليا) للحزب الفائز بانتخابات 2014 والذي كلف يوسف الشاهد برئاسة الحكومة وبين صاحب القصبة الذي استقطب جزءا هاما من النداء ومن نواب النداء ليجرف في طريقه الشريك السابق لرئيس الدولة في التوافق. هذه الأسئلة الحارقة وبما خلفته من أجواء وأفرزته من حيرة وافترضته من سيناريوهات حول مآلات تشكيل الحكومة الجديدة والتجاذبات المحيطة بها دفعت رئيس الدولة ليتدخل بهدف وضع النقاط على الحروف وإنارة الساحة السياسية والشعب التونسي حول خفايا ما يجري... لكن هذا التدخّل خلّف أسئلة أكثر مما وفّره من أجوبة... أسئلة تدور حول خفايا تدخل الرئيس وحول الغايات التي رمى إليها والأهداف التي أراد تحقيقها. مفهوم الدولة واضح ان الرئيس الباجي قائد السبسي المتشبع بمفهوم الدولة على مدى أكثر من 4 عقود مارس فيها السياسة في محيط الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة تعلّم فيها الكثير أراد أن يأخذ رئيس حكومته الشاب الطموح الذي تعوزه خبرة العقود التي راكمها هو إلى ملعبه... ليعزف على وتر الاخلالات الشكلية وحتى الأخلاقية التي رافقت وتبعت عملية اعلان التشكيل الحكومي الجديد... وفي مقدمة هذه الاخلالات كما عدّدها رئيس الدولة تأتي مسألة عدم تداول التغيير الحكومي في مجلس وزراء يسبق الاعلان عن الفريق الجديد... علاوة على ضرورة اعلام رئيس الدولة بالمسألة التي قال الرئيس انها كانت عرضية من جملة مسائل أخرى تم تطارحها في لقاء الرجلين.. وألح على أنه دعا رئيس الحكومة لارجاء اعلان خطوته الجديدة إلى ما بعد عودته من زيارة موريتانيا (يوم 6 نوفمبر) ليتفاجأ مساء نفس اليوم (5 نوفمبر) بتدخل رئيس الحكومة لإعلان التحوير الوزاري. هذا علاوة على الصخب الذي ثار والسيناريوهات التي أطلقت بشأن رفض مرتقب لأن يؤدي الوزراء الجدد اليمين الدستورية أمام رئيس الدولة طالما أنه لم يستشر وفوجئ بالأسماء مثل غيره... وهو السيناريو الذي حرص الباجي على تكذيبه مؤكدا احترامه لمفهوم الدولة... علامات ضعف لكن تأكيدات الرئيس التي أرادها عزفا على مواطن قوّته و«ضعف» رئيس حكومته لم تفلح على ما يبدو في إخفاء مواطن ضعف كثيرة في خنادق رئيس الدولة كشفها من حيث حاول تبديدها والتنصل منها.... فقد كشفت رسائل الباجي أن رئيس حكومته بلغ نقطة اللاعودة في حرب الإرادات... وانه ماض محاط بجزء هام من النداء ومن نوابه ومستندا إلى توافق أو التقاء مصالح جديد مع حركة النهضة نحو إرساء قواعد لعبة جديدة تنقل موقع القرار الأول وموطن السلطة كما ينص عليه الدستور الجديد من قرطاج إلى القصبة... وتهيئ لمقادير جديدة سيستعد لها السيد يوسف الشاهد في المحطة الانتخابية القادمة... ولعل هذه الأوراق الجديدة وما باتت توفره من عوامل قوة ومن هوامش مناورة لرئيس الحكومة هي التي دفعت رئيس الدولة إلى تعرية تحالف يوسف الشاهد مع النهضة وكذلك إعراض رئيس الحكومة عن مشاورته وعن الالتزام بتوصياته... بل وبإطلاق موشرات تشي بإنهاء دور رئيس الدولة أو حتى عزله وهو ما جعل الباجي يلحّ على «ضرورة احترام مكانة رئيس الجمهورية ونواميس العمل السياسي... ويؤكد ا ستعداده لترك منصبه إذا ما اقتضى الأمر»... مرارة لم تقف الإشارات والمؤشرات عند هذا الحد، بل أن رئيس الدولة وبعد كل هذه الشهور من رفض السيد يوسف الشاهد «عرض حكومته على البرلمان أو الاستقالة» كما نصحه علنا بذلك عاد ليؤكد التزامه بالمآلات التي سيرسمها مجلس النواب لحكومة الشاهد 3 وهو يعلم تمام العلم أن رئيس حكومته رتب أموره ووفر لخطوته كل مقومات النجاح من خلال تحالفه مع حركة النهضة والمشروع والمبادرة وحتى مع نواب مازالوا في كتلة النداء علاوة على كتلة الائتلاف الوطني التي هيأها لنفسه... ولعل هذه المعطيات الجديدة هي التي وشت بما بات يستطبنه رئيس الدولة من مرارة بسبب «استقواء» رئيس حكومته بجزء هام من حزبه ومن نواب حزبه وحتى بشريكه في التوافق (حركة النهضة)... وهو ما يزيد في تضييق هوامش المناورة ويدفع الرئيس إلى إعلان قبوله بقرار مجلس نواب الشعب مع علمه سلفا بطبيعة هذا القرار في ضوء التحالفات الجديدة. لكل هذا، فإن مداخلة الرئيس الباجي قايد السبسي يوم أمس طرحت من الأسئلة الجديدة أكثر مما وفرته من أجوبة على الأسئلة القديمة.. أسئلة تشي بنوع من المرارة وربما الندم وهو يرى مواقع السلطة والقرار تنتقل خطوة خطوة من قصر قرطاج إلى قصر القصبة استباقا لمآلات تبدو وكأنها محسومة في المواعيد الانتخابية القادمة خاصة بعد أن عقد من دعمه في حزبه (النداء) ودفع به الى رأس السلطة التنفيذية زواج متعة مع شريكه السابق في التوافق وانطلق يطلب كل أوراق اللعبة... حتى وإن اقتضى الأمر «قتل الأب»...