تونس (الشروق) إضراب الأمس مختلف عن جميع الإضرابات العامة السابقة... الاختلاف شمل الإطار والأسباب والتداعيات ليقدم لنا ثلاثية جديدة متلازمة بدل الثنائيات التي سادت سابقا: من ثنائية النضال الوطني السياسي إلى ثنائية النقابي الوطني إلى ثنائية الاجتماعي - الوطني… بالأمس مر اتحاد الشغل إلى تجربته الأولى في الثلاثيات مستهلا إياها بثلاثية النقابي - الوطني – السياسي: في تجربة الاتحاد الأولى مع الإضراب العام زمن الحماية الفرنسية (ديسمبر 1951) حضرت ثنائية النضال الوطني والسياسي (الاستقلال التام مع مؤازرة الحزب الدستوري). وخلال جانفي 1978 مر إلى ثنائية النضال النقابي والاجتماعي (تحسين المعيشة وعدم التضييق على النشاط النقابي)، أما خلال جانفي 2011 فكانت للاتحاد تجربة مختلفة في الإضراب العام: عدم تحديد يوم موحد للإضراب العام والسماح للمكاتب الجهوية باختيار التاريخ الذي تراه صالحا لجهاتها مع العودة إلى ثنائية النضال الوطني السياسي دون غيرها. هذه الثنائية ترسخت في الإضراب العام الذي شهدته تونس يوم 8 فيفري 2013 على هامش استشهاد شكري بلعيد قبل أن يمر الاتحاد في إضرابه العام الأخير إلى التجربة الأولى مع الثلاثيات: «الدفاع عن مناعة تونس» المنطلق مطالب نقابية تعلقت أساسا بالزيادة في أجور الوظيفة العمومية لكن لدينا من الأدلة الملموسة ما يثبت أن الإضراب تجاوز البعد النقابي إلى البعدين الوطني والسياسي. «اليوم هي معركة الكرامة» هذه العبارة التي قالها الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي، في كلمة ألقاها أمس أمام الجماهير المتجمعة قرب البرلمان تتعدى البعد النقابي إلى الوطني بما أن الكرامة لا تعني فقط تحسين ظروف العمل والزيادة في الأجور. الأكثر من هذا أن الطبوبي خلع في بقية كلامه جبة النقابي وارتدى جبة الوطني عبر قوله: «أين نحن من السيادة الوطنية؟ أيها الشغالون قدركم هو الدفاع عن مناعة تونس...». إلى هذا الحد يطغى البعد الوطني على غيره ولكن هذا لا يغيب البعد السياسي ذلك أن من يخشى على الحكومة لا يلجأ إلى زلزلتها بإضراب عام وإذا كان مجبرا (جدلا) على هذا الحل فقد كان بإمكانه أن يعطي للحكومة فرصة لإقناع صندوق النقد الدولي عله يخفف من شروطه مراعاة للواقع التونسي. الاتحاد يمارس السياسة بامتياز وهو يغلف هذا الدور بغلاف أول نقابي وغلاف ثان وطني فهل يمكن مؤاخذته على هذا التوجه؟ من منظور سياسي قسّم الإضراب الأخير الرأي العام والطبقة السياسية وجميع المحللين والخبراء إلى قسمين أولهما يعترض على الاتحاد إلى حد التهجم عليه وثانيهما يؤازره دون قيد أو شرط: الرأي الأول يمنع عن المنظمة النقابية أي حق في ممارسة السياسة ويمر إلى التشكيك في وطنيتها بدعوى أن الوطني ليس من يتشدق بالوطنية بل من يتخذ قرارات تنفع الوطن ويتنازل عن أي مطلب أو إجراء يمكن أن يضر بالوطن. أما الثاني فيمنع أولا أي مزايدة على وطنية الاتحاد ويحمل الأضرار الناجمة عن الإضراب للحكومة بتعلة أنها تواصل رهن البلاد لصندوق النقد الدولي وترفض إنقاذ الميزانية عبر إعلان حرب حقيقية على الفساد والتهريب والتهرب الجبائي والاحتكار... الطرحان معقولان جدا لكن غير المعقول فيهما أن تكون نظرة كل شق إلى المصلحة الوطنية من ثقب انتمائه السياسي. ذلك أن من يشيطن الاتحاد يجعل الحكومة وأحزابها فوق النقد فيما يكتفي الشق المقابل بتحميل المسؤولية كلها للحكومة وأحزابها بما ينفي أي تهمة أو شبهة عن الاتحاد. «قرارات نضالية تصعيدية» الثابت في هذا كله أن كل طرف يدافع عن مصالحه السياسية فقط دون المصلحة الوطنية والدليل أن الاتحاد لم يلجأ قط إلى الإضراب العام إلا متى كان في صدام تام مع الجهة السياسية المقابلة (الحماية الفرنسية ثم النظام البورقيبي ثم نظام بن علي لما فقد شعبيته ثم حكومة الترويكا وأخيرا حكومة الشاهد الثالثة). والأكثر من هذا أن اتحاد الطبوبي لم يفكر مطلقا في الإضراب العام عندما كان يدعم حكومتي الشاهد الأولى والثانية (في بدايتها) بل إنه لم يلجأ إلى سلاحه إلا بعد أن تحداه الشاهد بتجاوز الخطوط الحمراء ورفض الاستقالة. في المقابل لا يمكن اعتبار حكومة الشاهد ضحية ولعل الأسلم أن نقول إنها تجني ثمار ما زرعه الشاهد منذ الاستنجاد به قبل عامين وربع عام تقريبا. في السياسة، كل الأسلحة متاحة، والسياسي الجيد من يستغل الفرصة المناسبة في محاولة الإجهاز على خصمه ولكن المشكلة التي تعني عموم التونسيين أننا إزاء معركة تكسير عظام يتضرر منها الوطن بالضرورة والحال أن تفادي المعركة كان ممكنا عبر التفاوض وتقديم التنازلات... لا فائدة اليوم من النظر إلى الوراء بل علينا أن ننظر بتفاؤل إلى المستقبل لاسيما بعد أن بشرنا الطبوبي في كلمته التي ألقاها أمس بأن «الاتحاد سيوسّع نطاق الإضراب و سيتخذ قرارات نضالية تصعيدية». أبرز الإضرابات العامة التي نفذها اتحاد الشغل ديسمبر 1951: إضراب عام في ظل الحماية الفرنسية دفاعا عن القضية التونسية ورفضا لفكرة السيادة المزدوجة ووقوفا إلى جانب الحزب الحر الدستوري. 26 جانفي 1978: (الخميس الأسود) كان الإضراب العام استجابة لرغبة الاتحاد المطالب برفع القيود عن العمل النقابي فضلا عن تحسين الأوضاع المعيشية وقد شهد مواجهات دامية خلفت عشرات الضحايا وتم فيه إلقاء القبض على القيادات النقابية. جانفي 2011: استجابت المركزية النقابية لضغوط النقابات القطاعية فقررت الإضراب العام ضد سياسة بن علي تجاه المتظاهرين لكنها سمحت لكل اتحاد جهوي باختيار التاريخ الذي يراه مناسبا لجهته وقد توقفت الاضرابات يوم 14 جانفي بعد الإعلان عن مغادرة بن علي. 8 فيفري 2013 : قرر الاتحاد إضرابا عاما في رد فعل على استشهاد شكري بلعيد وتعبيرا عن رفض سياسة الترويكا.