يحتفل البطل " لطفي " في فيلم " في عيني " للمخرج التونسي نجيب بلقاضي ، خلال اللقطات الأولى بانتظار مولود جديد من رفيقته الفرنسية، فلا تبدو عليه أية علامات للأسى أو الحزن. مع ذلك، فقد هاجر لطفي إلى فرنسا ،بعد أن استعصى عليه العيش مع زوجته وابنه يوسف المصاب بمرض التوحد ، إذ يشرع المخرج في الكشف تدريجيا عن معاناة البطل ،رغم ما أبداه هذا الأخير في بداية الفيلم، من مرح وحب للحياة وقدرة على اتخاذ بعض المواقف، بطرق لا تخلو من العنف والحزم . فيرفع عنه الحجب دون أن يحيط شخصية البطل بأجواء درامية أو بمشاهد، تعبر عن الأحاسيس الحزن والعجز كما هو معهود ، سيضطر لطفي إلى العودة إلى تونس بعد تعرض زوجته إلى جلطة، جعلت "يوسف" الذي لم يتجاوز الثامنة من العمر ،ينتقل للعيش مع خالته " خديجة " فيفتكه منها ليصطحبه إلى البيت ويقرر التكفل بتربيته ، تاركا وراءه رفيقته الفرنسية وعمله والجنين الذي كان ينتظره . لكن المهمة تبدو شبه مستحيلة ، فمن المعلوم أن المصاب بمرض التوحد، لا يتواصل مع العالم الخارجي ولا مع الناس من حوله ، لذلك كان يوسف عاجزا حتى عن الكلام . يحاول لطفي التواصل معه متجاوزا إمكانيات اللغة ، باستعمال الحركة والتعبير الجسدي والمشاعر رافضا الالتجاء إلى الطب النفسي وإلى المراكز المختصة، لفهم ما يجري في عالمه الداخلي مستعملا الصورة لمتابعة حركاته، فكان يلتقط حركاته ونظاراته عند تصويره. ويصر لطفي بعد مرور سنين عديدة من القطيعة والهجر،على أن يلتقي وجها لوجه بابنه يوسف، أن تتشابك نظاراتهما ، سعيا منه لخلق لحظة وجود متبادلة : أن يوجد كل منهما بالنسبة للآخر ، فكان لا بد لهما الرجوع إلى نقطة البداية: إلى لحظة التخلي: تخلي الأب عن ابنه للبحث عن حياة أفضل، تلك اللحظة التي أحدثت القطيعة بينهما ثم الغياب والفقد. لكن عالم يوسف كان دائريا، كما كانت تدل حركاته وألعابه ،إذ غالبا ما كان يدور حول نفسه لا يبرحها بالتقوقع داخلها بعيدا عن العالم الخارجي ، فلم يكن متاحا للطفي دخول تلك الدائرة المغلقة وإخراج يوسف منها ،لذلك كانت نظارات يوسف شاردة تائهة غائبة، تتجنب كل من حوله ولا ترى الأشياء المحيطة بها، حتى أنه ألغى أثناء لعبه جميع العيون من دماه وصوره ، لأن الآخر كان مغيبا ، منسحبا ، ملغى ككيان وذات ووجود. وبين المشهد والمشهد ،سيفكك لطفي تلك الإشارات في جو لا يخلو تارة من اللعب والاستخفاف وطورا بشيء من اليأس والانكسار والرغبة في الهروب من المسؤولية مرة أخرى . وذات ليلة، أبدى يوسف انبهارا خاصا بمصابيح الضوء الملونة التي علقها والده لطفي بسقف غرقته ، فإذا به يفتح عينيه ليكتشف العالم الخارجي كأنه يراه لأول مرة ، ليوجه نظاراته التي طالما كانت شاردة تائهة إلى بقع الضوء المحيطة به . فيلتقط لطفي تلك اللحظة المفصلية في سلوك ابنه، ليقوم بتركيب مصباحين صغيرين قرب عينيه حتى تلتقي نظارات يوسف بنظاراته، عسى أن يحدث التواصل بينهما ،فيخرج يوسف من دائرته الضيقة التي جعلته يعيش الغربة والعزلة عن العالم الخارجي وعن الآخرين ،لينظر إلى والده ويشعر بوجوده. كذلك ينتقل بنا المخرج نجيب بلقاضي ، من الرؤية الكلاسيكية للدراما وما تقتضيه من إبراز لعواطف وانفعالات الشخصيات إلى ما هو أكثر تعقيدا وعمقا في النفس الإنسانية وهو تناقض شخصية لطفي التي كانت تجمع بين هذه الصفات : فهو القادر و العاجز ، المرح و المحبط ، الأناني والسخي ،العنيف والعطوف ، المسؤول والإتكالي. فكان ألمه متقلبا تخفيه ابتساماته وغضبه وعنفه بل وتعطشه للّذة وللحياة هروبا من مواجهة مشاكل لا حلول لها، تركت في نفسه شعورا بالألم والعجز . لقد فتح لنا فيلم "في عيني" أفق التواصل والتعبير الجسدي باعتبار أن ثنائية الأنا و الآخر تمر حتما بتبادل النظرات حتى يوجد كل طرف بالنسبة للآخر،مبرزا تعددية المعاني في لغة الجسد سواء في الألعاب أو السلوك أو في الحركات، لا تلك المعروفة لدى الأطفال العاديين ، بل تلك التي يعيشها المصابين بأمراض عقلية مثل التوحد ،أي تلك الخالية من كل قناع أو قيمة اجتماعية . الفيلم لا يخلو كذلك من أبعاد أخرى اجتماعية وثقافية ، أظهر المواهب الفنية لكل من " نضال السعدي " في دور لطفي الأب و"إدريس الخروبي" في دور الابن يوسف، إلى جانب إتقان سوسن معالج لدور خديجة ، وهي أبعاد تمنح قراءات أخرى ممكنة ،علاوة عن بعده الإنساني السيكولوجي الذي اخترناه لارتباطه ارتباطا وثيقا بمرض التوحد . ومع ذلك، لم يصارحنا لطفي بأحاسيس عديدة أخرى، رغم انهياره وصرخته في مشهد ما من الفيلم قائلا ليوسف: "أشبيك هكة ؟ دمرت لي حياتي ؟."تلك المتعلقة بمشاعر الأبوة بما تحمله من محبة و إحساس بالخجل من ابن يشكو من مرض التوحد . كأن لطفي رغم كل تناقضاته، لم يبلغ أقصى درجات العمق، ليكون أكثر إقناعا وتألقا في دوره المأساوي، فقد كان أحيانا يطفو على السطح وطورا يلامس عمق الذات الإنسانية، ربما لأنها الخطوات الأولى في السينما التونسية التي تطرح رؤية مغايرة للمعاناة الإنسانية ، تلك التي تلازم الإنسان سواء تنكر لها أو واجهها، باح بها أو تكتم عنها، وهو طرح يتجاوز خصوصياتنا الثقافية، ليسعى في كشف خفايا الإنسان دون الاستسلام إلى التشاؤم . أما المستوى الجمالي ، فقد احتلت فيه الصورة بوصفها لغة التواصل والتخاطب بين الشخصيتين الأساسيتين ( الأب والابن )مكانة مركزية ، فكانت لها جمالية خاصة ،جعلت مشاهد الفيلم تقص صور التخاطب بينهما،كما التقطها لطفي في لحظات معينة من نشاط يوسف ، مما أحدث ديناميكية بين الصورة الفوتوغرافية والتصوير السينمائي ، علاوة على التداخل بين العالم الواقعي والعالم الغريب للتوحد الذي لازم جميع مراحل الفيلم من أوله إلى آخره، ليشكل سردية التصوير أو بالأحرى الفيلم الذي يقص لغة التصوير من خلال التوحد.