لا يعرفان بعضهما.. ملياردير برازيلي يوصي بثروته الهائلة لنيمار    ترامب يكسب المواجهة: واشنطن تخفض رسوم السيارات اليابانية، وطوكيو تفتح سوقها الزراعي    فاز على ليبيريا واقترب من المونديال.. المنتخب بثبات    تصفيات كأس العالم 2026: نتائج مقابلات الخميس في أفريقيا    «صوت هند رجب» يشعل مهرجان البندقية: 24 دقيقة من التصفيق الحار نصرةً لفلسطين!    مباحثات ثنائية بين سعيد وتبون    بورتريه ...نيكولاس مادورو ....قاهر الأمريكان    على خلفية مقتل تونسي برصاص الشرطة في مرسيليا...تونس تحتجّ وتستدعي ممثل السفارة الفرنسية    نابل: نقائص كبيرة في العمالة ومشاكل مستمرة تعرقل العودة المدرسية    تحسين الخدمات للوافدين الصينيين    نتائجها هزيلة...مؤسسات تربوية تحتاج التقييم    ماطر: غلق مشارب ومحلات بيع المرطبات وحمام    خطبة الجمعة..في ذكرى مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام.. كيف نحب هذا النبي؟    أحبّ الأفعال إلى الرسول الكريم    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    الكونغو تعلن عن تفش جديد لفيروس إيبولا    السودان: انتشال 370 جثة من موقع الانزلاق الأرضي بجبل مرة    تصفيات مونديال 2026: تونس تقترب من التأهل بعد ثلاثية في شباك ليبيريا    حمية غذائية قد يقلل خطر ألزهايمر الوراثي: هل تعرف ما هي؟    "بيلد": استياء وخيبة أمل بين القادة الأوروبيين بعد محادثة هاتفية مهمة مع ترامب    بعد دقيقة واحدة من مغادرته الميناء: غرق يخت فاخر..    نقابة الصيادلة تؤكد العودة التدريجية للتزود ببعض أصناف الادوية بداية الأسبوع المقبل    القاهرة: النفطي يؤكد على ضرورة وقف حرب الإبادة والتجويع ضد الشعب الفلسطيني    أنغام تستعد لأولى حفلاتها في الخليج بعد تعافيها من أزمتها الصحية    وزارة الثقافة تنعى مدير دار الثقافة بمارث    غرفة الكتبيين: تكلفة المحفظة المدرسيّة ستشهد تراجعاً    دعوة للوقاية من فيروس ''حمى غرب النيل'' بعد تسجيل إصابات في زغوان    وزير السياحة : القطاع السياحي في تونس يحتاح الى تطوير خدماته المقدمة للسائح الصيني في ظل تزايد اهتمام الاخير بالسياحة الثقافية    تونس: استضافة نحو 30 دولة ومشاركة ما يزيد عن 100 مؤسسة ناشئة في تظاهرة "بيغ تاك أفريكا"    شركة إسمنت قرطاج تحقق أرباحا بقيمة 28،1 مليون دينار إلى غاية موفى شهر جوان 2025    قابس: احتفالات دينية بمقام الصحابي سيدي أبي لبابة الأنصاري احتفالا بالمولد النبوي الشريف    عاجل: وفاة ملك الموضة جورجيو أرماني عن عمر يناهز 91 عاماً    الرابطة الثانية - مكارم المهدية تتعاقد مع متوسط الميدان حازم اللمطي    دكتورة تونسية تحذّر من الملح في الخبز    في أيّ موسم من فصول السنة وُلد رسولنا؟    بطولة العالم للكرة الطائرة أكابر: المنتخب التونسي يشد الرحال اليوم الى الفليبين    الأولمبي الباجي: أجنبي يعزز الفريق .. ومباراة ودية في البرنامج    أختتام مهرجان القناع المسرحي في المحرس    حجز عُلب حليب أطفال مهرّبة بهذه الولاية    توقيع مذكرة تعاون بين اتحاد الغرف العربية ومعهد العالم العربي بباريس    الزهروني: الإطاحة بمنحرف روع المتساكنين بالسرقة بالنطر    بعثة اقتصادية وتجارية لشركات ناشئة تونسية تتحول الى عاصمة الكنغو الديمقراطية كنشاسا من 22 الى 27 سبتمبر الجاري    زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    اليوم..الدخول مجاني لجميع المواقع الأثريّة والمعالم التاريخيّة والمتاحف..    وزيرة الأسرة تكرّم 60 تلميذا وطالبا من أبناء مؤسسات رعاية الطفولة المتميّزين بعنوان السنة التربويّة 2025-2024    جريمة بشعة: أم تقتل رضيعها وتلقيه في القمامة ثم تذهب للتسوق!    رمضان 2026 في قلب الشتاء و أعلى فترات تساقط الثلوج إحصائياً    قائمة الدول الأغلى عالميا: الحياة فيها مكلفة جدّا    طقس اليوم: سماء قليلة السحب بأغلب المناطق    البرتغال: 15 قتيلا في حادث خروج عربة قطار عن مسارها    الندوة المولودية 53: الاجتهاد المقاصدي والسّلم المجتمعي في ضوء السّيرة النبوية"    تعاون مشترك في أولويات التنمية    مؤسسة UR-POWER الفرنسية تعتزم الإستثمار في تونس.    تمديد مرتقب للصولد الصيفي أسبوعين إضافيين قبل غلق الموسم!    المولد النبوي: مِشْ كان احتفال، تعرف على السيرة النبوية...منهج حياة ودروس خالدة    شوف الماتشات القوية في بطولة كرة اليد اليوم    اليوم: أمطار متفرقة في المناطق هذه...وين؟    قفصة: حجز 40 كلغ من الحلويات المستعملة في عصيدة الزقوقو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذة كاهنة عبُاس تكتب ل" الشروق أون لاين": "في عيني" فيلم الصورة المتحدّثة والألم المقنع
نشر في الشروق يوم 23 - 11 - 2018

يحتفل البطل " لطفي " في فيلم " في عيني " للمخرج التونسي نجيب بلقاضي ، خلال اللقطات الأولى بانتظار مولود جديد من رفيقته الفرنسية، فلا تبدو عليه أية علامات للأسى أو الحزن.
مع ذلك، فقد هاجر لطفي إلى فرنسا ،بعد أن استعصى عليه العيش مع زوجته وابنه يوسف المصاب بمرض التوحد ، إذ يشرع المخرج في الكشف تدريجيا عن معاناة البطل ،رغم ما أبداه هذا الأخير في بداية الفيلم، من مرح وحب للحياة وقدرة على اتخاذ بعض المواقف، بطرق لا تخلو من العنف والحزم .
فيرفع عنه الحجب دون أن يحيط شخصية البطل بأجواء درامية أو بمشاهد، تعبر عن الأحاسيس الحزن والعجز كما هو معهود ، سيضطر لطفي إلى العودة إلى تونس بعد تعرض زوجته إلى جلطة، جعلت "يوسف" الذي لم يتجاوز الثامنة من العمر ،ينتقل للعيش مع خالته " خديجة " فيفتكه منها ليصطحبه إلى البيت ويقرر التكفل بتربيته ، تاركا وراءه رفيقته الفرنسية وعمله والجنين الذي كان ينتظره .
لكن المهمة تبدو شبه مستحيلة ، فمن المعلوم أن المصاب بمرض التوحد، لا يتواصل مع العالم الخارجي ولا مع الناس من حوله ، لذلك كان يوسف عاجزا حتى عن الكلام .
يحاول لطفي التواصل معه متجاوزا إمكانيات اللغة ، باستعمال الحركة والتعبير الجسدي والمشاعر رافضا الالتجاء إلى الطب النفسي وإلى المراكز المختصة، لفهم ما يجري في عالمه الداخلي مستعملا الصورة لمتابعة حركاته، فكان يلتقط حركاته ونظاراته عند تصويره.
ويصر لطفي بعد مرور سنين عديدة من القطيعة والهجر،على أن يلتقي وجها لوجه بابنه يوسف، أن تتشابك نظاراتهما ، سعيا منه لخلق لحظة وجود متبادلة : أن يوجد كل منهما بالنسبة للآخر ، فكان لا بد لهما الرجوع إلى نقطة البداية: إلى لحظة التخلي: تخلي الأب عن ابنه للبحث عن حياة أفضل، تلك اللحظة التي أحدثت القطيعة بينهما ثم الغياب والفقد.
لكن عالم يوسف كان دائريا، كما كانت تدل حركاته وألعابه ،إذ غالبا ما كان يدور حول نفسه لا يبرحها بالتقوقع داخلها بعيدا عن العالم الخارجي ، فلم يكن متاحا للطفي دخول تلك الدائرة المغلقة وإخراج يوسف منها ،لذلك كانت نظارات يوسف شاردة تائهة غائبة، تتجنب كل من حوله ولا ترى الأشياء المحيطة بها، حتى أنه ألغى أثناء لعبه جميع العيون من دماه وصوره ، لأن الآخر كان مغيبا ، منسحبا ، ملغى ككيان وذات ووجود.
وبين المشهد والمشهد ،سيفكك لطفي تلك الإشارات في جو لا يخلو تارة من اللعب والاستخفاف وطورا بشيء من اليأس والانكسار والرغبة في الهروب من المسؤولية مرة أخرى .
وذات ليلة، أبدى يوسف انبهارا خاصا بمصابيح الضوء الملونة التي علقها والده لطفي بسقف غرقته ، فإذا به يفتح عينيه ليكتشف العالم الخارجي كأنه يراه لأول مرة ، ليوجه نظاراته التي طالما كانت شاردة تائهة إلى بقع الضوء المحيطة به .
فيلتقط لطفي تلك اللحظة المفصلية في سلوك ابنه، ليقوم بتركيب مصباحين صغيرين قرب عينيه حتى تلتقي نظارات يوسف بنظاراته، عسى أن يحدث التواصل بينهما ،فيخرج يوسف من دائرته الضيقة التي جعلته يعيش الغربة والعزلة عن العالم الخارجي وعن الآخرين ،لينظر إلى والده ويشعر بوجوده.
كذلك ينتقل بنا المخرج نجيب بلقاضي ، من الرؤية الكلاسيكية للدراما وما تقتضيه من إبراز لعواطف وانفعالات الشخصيات إلى ما هو أكثر تعقيدا وعمقا في النفس الإنسانية وهو تناقض شخصية لطفي التي كانت تجمع بين هذه الصفات : فهو القادر و العاجز ، المرح و المحبط ، الأناني والسخي ،العنيف والعطوف ، المسؤول والإتكالي.
فكان ألمه متقلبا تخفيه ابتساماته وغضبه وعنفه بل وتعطشه للّذة وللحياة هروبا من مواجهة مشاكل لا حلول لها، تركت في نفسه شعورا بالألم والعجز .
لقد فتح لنا فيلم "في عيني" أفق التواصل والتعبير الجسدي باعتبار أن ثنائية الأنا و الآخر تمر حتما بتبادل النظرات حتى يوجد كل طرف بالنسبة للآخر،مبرزا تعددية المعاني في لغة الجسد سواء في الألعاب أو السلوك أو في الحركات، لا تلك المعروفة لدى الأطفال العاديين ، بل تلك التي يعيشها المصابين بأمراض عقلية مثل التوحد ،أي تلك الخالية من كل قناع أو قيمة اجتماعية .
الفيلم لا يخلو كذلك من أبعاد أخرى اجتماعية وثقافية ، أظهر المواهب الفنية لكل من " نضال السعدي " في دور لطفي الأب و"إدريس الخروبي" في دور الابن يوسف، إلى جانب إتقان سوسن معالج لدور خديجة ، وهي أبعاد تمنح قراءات أخرى ممكنة ،علاوة عن بعده الإنساني السيكولوجي الذي اخترناه لارتباطه ارتباطا وثيقا بمرض التوحد .
ومع ذلك، لم يصارحنا لطفي بأحاسيس عديدة أخرى، رغم انهياره وصرخته في مشهد ما من الفيلم قائلا ليوسف: "أشبيك هكة ؟ دمرت لي حياتي ؟."تلك المتعلقة بمشاعر الأبوة بما تحمله من محبة و إحساس بالخجل من ابن يشكو من مرض التوحد .
كأن لطفي رغم كل تناقضاته، لم يبلغ أقصى درجات العمق، ليكون أكثر إقناعا وتألقا في دوره المأساوي، فقد كان أحيانا يطفو على السطح وطورا يلامس عمق الذات الإنسانية، ربما لأنها الخطوات الأولى في السينما التونسية التي تطرح رؤية مغايرة للمعاناة الإنسانية ، تلك التي تلازم الإنسان سواء تنكر لها أو واجهها، باح بها أو تكتم عنها، وهو طرح يتجاوز خصوصياتنا الثقافية، ليسعى في كشف خفايا الإنسان دون الاستسلام إلى التشاؤم .
أما المستوى الجمالي ، فقد احتلت فيه الصورة بوصفها لغة التواصل والتخاطب بين الشخصيتين الأساسيتين ( الأب والابن )مكانة مركزية ، فكانت لها جمالية خاصة ،جعلت مشاهد الفيلم تقص صور التخاطب بينهما،كما التقطها لطفي في لحظات معينة من نشاط يوسف ، مما أحدث ديناميكية بين الصورة الفوتوغرافية والتصوير السينمائي ، علاوة على التداخل بين العالم الواقعي والعالم الغريب للتوحد الذي لازم جميع مراحل الفيلم من أوله إلى آخره، ليشكل سردية التصوير أو بالأحرى الفيلم الذي يقص لغة التصوير من خلال التوحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.