فيلم "في عينيا" هو تجربة سينمائية جديدة يعود من خلالها المخرج نجيب بالقاضي إلى المشهد بدخول هذا الفيلم الروائي الطويل للقاعات بداية من 11 نوفمبر القادم أي بعد المشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان أيام قرطاج السينمائية في دورته التاسعة والعشرين التي تنتظم من 3 إلى غاية 10 من نفس الشهر. وهي تجربة مختلفة عما سبق أن قدمه هذا المخرج من أفلام خلال مسيرته على غرار "باستاردو" و"في أش أس كحلوشة" وآخرها الفيلم الوثائقي "سبعة ونصف". وقد كان الموعد مع العرض الأول للفيلم الجديد الذي أخرجه ووضع له السيناريو نجيب بالقاضي وشارك أيضا في التمثيل فيه، مساء أول أمس بقاعة "مدار قرطاج" بحضور صناع هذا العمل بما في ذلك المخرج وعدد من الممثلين. وهو عمل من إنتاج "بروباقندا للانتاج" بإدارة رفيق دربه عماد مرزوق وبدعم من وزارة الشؤون الثقافية فضلا عن جهات أخرى من قطروفرنسا. لم يلجأ المخرج إلى مقدمات نمطية فيها تشويق وإلغاز بل اختار أن يضع المشاهد أمام حقيقة مؤلمة منذ المشاهد الأولى للفيلم من خلال حقيقة إبنه المصاب بمرض التوحد. وتجدر الإشارة إلى أن فيلم "في عينيا" مدته ساعة و36 دقيقة ويشارك في تجسيده كل من نضال السعيدي في دور "لطفي" وسوسن معالج في دور "خديجة" وإدريس الخروبي في دور الطفل "يوسف" إضافة إلى كل من عزيز الجبالي ومنى نور الدين والممثلة الفرنسية آن باري. ويتمحور موضوع هذا الفيلم حول قصّة مهاجر تونسي يُدعى لطفي في العقد الرابع من عمره، يعيش حياة هنيئة بمدينة مرسيليا الفرنسية. يعيش روتينة بين متجر المعدات الكهرومنزليّة وعشيقته الفرنسيّة صوفي. لكن اتصال هاتفي من أخيه المقيم بتونس يعود به إلى طيّات الماضي بعد أن أخبره أن زوجته سارّة بالمستشفى إثر تعرّضها لسكتة دماغيّة. فيضطرّ لطفي للعودة إلى بلاده ليطالب خديجة، أخت زوجته، بحضانة ابنه المتوحّد يوسف ذي التسع سنوات. وقد حاول نجيب بالقاضي في هذا الفيلم أن يعالج مشكلة مرض "التوحد" الذي يعاني منه عدد كبير من الأطفال ليس في تونس فحسب بل كل أنحاء العالم، لكن بعيدا عن المعالجة الطبية الإكلينية وعلى طريقة مختلفة عما هو مألوف في التعاطي مع هذه الحالة في مجتمعاتنا. خاصة أن "التوحد" أو الذاتوية هي مرض يتمثل في اضطرابات تؤثر على قدرة الطفل على الاتصال بمحيطه وعلى مدى تطوير علاقات متبادلة مع من حوله بسبب ما يعيشه من صعوبات في مستوى العلاقات الاجتماعية المتبادلة وعدم القدرة على الكلام والنطق وأيضا في السلوك الذي ينزع نحو العدوانية والنوبات المزاجية الطاغية على تصرفات المصاب. وهو تقريبا ما ينطلق على حالة "يوسف" في هذا الفيلم. وقد أبدع الطفل إدريس الخروبي في تجسيد دوره إلى درجة يخاله المشاهد للفيلم من "المتوحدين" خاصة من خلال إتقان حركات اليدين والوقوف أمام الكاميرا التركيز على توظيف العينين في كل مشاهد الفيلم. فبدا مهندس الفيلم قد "خبر" الحالة التي يعالجها وكان ملمّا بكل التفاصيل الدقيقة العلمية منها والاجتماعية المتعلقة بهذه الحالة سواء تعلق ذلك بحالة "المريض" وردود أفعال المحيطين به وطرح المواقف والقراءات المختلفة لهذه الحالة، من وجهات نظر اجتماعية وثقافية وعلمية. لتنطلق رحلة لطفي العلاجية من خلال اللجوء للبحث في أعماقه عن الغريزة الأبويّة في محاولة لخلق مجال تعايش مع ابنه من ناحية وليخلق صلة معه خاصّة بعد اكتشافه لاضطرابات يوسف الّذي لم يره منذ ستّة سنوات واختياره الهروب إلى فرنسا وعدم العودة للسؤال عنه عنوة بتعلة واهية روجها حول مشاكل في الإقامة. ومن هنا تبدأ رحلة لطفي الاستكشافية في مواجهة موجات القلق والأزمات النّفسيّة ليوسف الّذي يرفض رفضا تامّا وجود أب لم يعرفه طوال حياته لدرجة أنّه يتجنّب حتّي النّظر إليه في عينيه. مما دفع بالأب ليتحدى كل الصعوبات من أجل إيجاد آلية تواصل بينه وبين إبنه وبين إبنه والعالم الخارجي ليخرجه من عالم الوحدة. من التوحد إلى الوحدة ليطرح من خلال نظرة الشخصيات المنتقاة في الفيلم تعاطي المجتمع في بلدنا مع هذه الحالة بين من يعتبرها مجرد حالة مختلة يكفي وضعه في مركز خاص بمن هم في مثل حالته وبين من يعتبرها حالة ناجمة عن مس الجن" ويمكن معالجتها بتمائم للسحر وبين فئة أخرى ترى الطفل المصاب بالتوحد مجنون ويجب حمله لمستشفى الأمراض العقلية فيما يمثل "لطفي" نظرة الاخر الوافدة والتي تعتبر أن الوضعية مختلفة وتتطلب أدوات أخرى للمعالجة تختلف عما سبق طرحه وتداوله وذلك بالاعتماد على "الحب" والعاطفة وإثارة ما هو إنساني، وذلك من خلال الإصرار على تنفيذ ذلك رغم تشكيك المحيطين به ونفاذ صبر الجميع. لينجح في رهانه بتغليب ما هو إنساني بعد أن نجح في تحقيق ما أراد بتحريك حواس إبنه ليجد التفاعل معه رغم الانكسارات العديدة. وهو بذلك إنما يحمل مسؤولية للأب بدرجة في لعب دور إكلينيكي بعيدا عن التعاطي الطبي الذي يعتمد على الحقن وغيرها لتجاوز نوبات الصرع والاضطربات وحالات الهيجان والعنف المفرط بل من خلال دفعه إلى الاقتراب من الإبن ومعايشة حالاته ودفعه للتجاوب معه عن طريق تحريك عاطفة الأبوة ومنحه جرعات الحب والحنان عبر محاولات الإرضاء وتلبيات رغباته وتوفير حاجياته خاصة أما سيطرة عقلية راسخة في القدم لدى مجتمعاتنا وهي الرغبة في أن يكون الإبن شبيها لوالده وامتدادا له ليس في الإسم فقط وإنما في السلوك والطبع. وهو ما عبر عنه بطل الفيلم في بعض المشاهد رغم ان الحوارات كانت قصيرة رغم المدة المطولة لأغلب المشاهد. فكانت هذه العاطفة "المطلوبة" تتجاوز العلاقة القائمة بين "لطفي ويوسف" في واقعية الفيلم بل تتعداه إلى تداعيات وقراءات أخرى أراد من خلالها المخرج أن يحيل إلى قضايا أخرى تتجاوز التوحد في معناه المرضي مطروحة في واقعنا اليوم وتشمل حالة الوحدة وشبه العزلة التي يعيشها الفرد اليوم في الأسرة والمجتمع وتداعايت ذلك السلبية على الجميع. في المقابل يطرح الفيلم مدى الحاجة الملحة للتحابب واقتراب "الأب" في مفهومه المتعارف عليه في مجتمعاتنا وفي أبعاده السياسية، من الشعب و"الرعية". فكان في نجاح عقيدة البطل في معالجة الحالة المرضية وعدم الرضوخ للتصنيفات الرافضة لكون "يوسف" حالة مختلفة يزدري الجميع منها بما في ذلك شكله باعتبار شعره الطويل" الذي جعله جدته تستنكر شكله وتشبهه بالفتاة، خاصة أن هذه العقيدة التي أرادها المخرج مبنية على الإصرار على تحقيق الهدف والتعاطي مع مثل هؤلاء كما لو كانوا أسوياء ودفعهم عبر المغريات والحب للخروج من حالات الهروب من الواقع والانغلاق على الذات في ظل غياب الاهتمام والرعاية المطلوبة. فكان التجاوب بعد أن استطاع "لطفي" أن يجعل أبنه يتجاوز عقدة النظر إلى الأخرين وتجاوز نزعة العنف باقتلاع أعين اللعب وتشويهها في الصور التي يجدها مقابل ميله للأضواء ذات الألوان المختلفة وفي ذلك رمزية تختزل نظرة استشرافية لواقع أجمل رغم قتامة الوضعية. لتكون النتيجة بتجاوز عائق اللغة بنطق الطفل لكلمة "بابا" على طريقته بعد ملازمة الأب للعيش معه في منزلهم القديم الذي هجره منذ سبع سنوات ثم يدفعه للتجاوب معه بلمسه من يده فالنظر إلى آلة "الكاميرا" التي اقتناها خصيصا لمتابعة وتسجيل مراحل مغامرته العلاجية ليكون المشهد الأخير إجابة صريحة لنجاح هذا المنحى في معالجة حالة الطفل واخراجه من الوضعية والحالة التي كان عليها وذلك من خلال "فيديو" صوره "يوسف" لوالده. وما يحسب لهذا الفيلم أنه قُدّ بإتقان وحرفية في مستوى السيناريو والصور والمشاهد وآداء الممثلين والمشهدية وتركيب الفيلم. فكانت "الجرأة" في المواقف والمشاهد الصادمة للمشاهد، العنصر الطاغي على الفيلم سواء في اللغة أو المواقف والحكاية تختزل في ابعادها وتصويرها ما يوجد في الواقع بذاءة.