ألقى قايد السبسي أمس بأولى أوراقه الرابحة وأهمها وهي ورقة المساواة، ووضع حركة النهضة في موقف صعب فإما أن «تقبّل الأفعى» بالموافقة على مبادرته وإما أن «تسقط في البئر» عبر الاعتراض عليها. تونس (لشروق) المصادقة على مشروع قانون أساسي يتعلق بإتمام مجلة الأحوال الشخصية وتعديل أحكامها في ما يتعلق بالمساواة بين الجنسين في الميراث. هذا ما انتهى إليه المجلس الوزاري الذي ترأسه رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي بنفسه أمس في قصر قرطاج. هي خطوة ثانية منه بعد الخطوة الأولى التي أعلن فيها عن مبادرته حول المساواة ولم يتبق غير الخطوة الثالثة المتمثلة في إحالة مشروع القانون على مجلس نواب الشعب وإخضاعه إلى التصويت ويومها ستكون كتلة النهضة ومن ورائها الحركة كلها أمام امتحان صعب وستكون نتيجته مفصلية لأنها ستحدد بدقة كبيرة جدا علاقة الحركة بقاعدتها من جهة ومكانتها الحزبية والسياسية على المستوى الداخلي والخارجي من جهة أخرى. على النهضة أن تختار ما بين الأسود والأبيض دون أن تتوفر لها فرصة اختيار الرمادي ولا التهرب من الإجابة ولكن ما علاقة هذا كله بصاحب المبادرة؟. سادسها النهضة للباجي أسباب متعددة من خلال طرح مبادرته والإصرار عليها، فالسبب الأول يتمثل في «دسترة» القوانين والأحكام حتى يكون جميعها متناغما مع دستورنا الحداثي الحالي. والسبب الثاني يتمثل في تكريس المدنية والحداثة التي يؤمن بها، فيما يتعلق الثالث بالوفاء بعهده في ما التزم به أمام ناخبيه الحداثيين، أما الرابع فيستهدف التخليد ذلك أن التاريخ سيخلد ذكرى الباجي باعتباره أول من تجاسر على تقنين المساواة بين الجنسين في الميراث إقتداء ببورقيبة والطاهر الحداد اللذين لم يبلغا حده في تسلق سلم الحداثة. فيما يرتبط السادس بمحاولة استعادة العنصر النسائي الذي أوصله سابق إلى الرئاسة. مع هذا كله يظهر سبب سادس مهم جدا يتعلق تحديدا بحركة النهضة أي الشريك الذي خيب آماله سابقا في التقدم نحو الحداثة والذي قوى شوكة «ابنه الروحي» وابن حزبه يوسف الشاهد والذي ساهم عن قصد أو دونه في تردي حالة حزب النداء… رفض رسمي «مبادرة المساواة في الميراث فضلا عن تعارضها مع تعاليم الدين ونصوص الدستور ومجلة الأحوال الشخصية، فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسية وعادات المجتمع...». هذا ما انتهى إليه مجلس شورى النهضة وفق ما جاء في بيانه الذي أصدره يوم 26 أوت الماضي ما يعني أن الحركة تقف رسميا ضد المبادرة وإن تباينت التعليقات الشخصية بين رافض دون نقاش للمبادرة (أمثال عبد الكريم الهاروني) وبين قابل بها (سعاد عبد الرحيم مثلا) وبين مناور بين الرفض والقبول (راشد الغنوشي). القضية مطروحة داخل حركة النهضة من جانب ديني ملخصه أن أحكام الميراث وردت في القرآن ضمن آيات قطعية لا يجوز التصرف فيها لكن الطرح الديني لا يتغلب على الطرح السياسي ذلك أن قرار الحركة النهائي بالمصادقة أو الرفض سيخلف بالضرورة تداعيات سياسية خطيرة على الحركة: مفترق الطريق النهضة ستعترض على مشروع القانون بالتصويت ضده، هذا ما تنتظره الأغلبية الساحقة من أنصارها وهذا أيضا المسار المعقول والمنطقي بما أن مجلس الشورى حسم في الأمر بالرفض ولكن الحركة ستحاسب على موقفها الرافض سواء مر القانون أو سقط. السبب في هذا أن الحركة ذات الأرضية الدينية الإسلامية امتحنت في وجودها وبقائها عبر مدى مدنيتها وحداثتها، واستطاعت النجاة بالمصادقة أولا على دستور 2014 الحداثي، وبالتوافق ثانيا مع حزب مدني حداثي، وبالمصادقة ثالثها على جميع المعاهدات الدولية والإقليمية المتصلة بالحداثة والمدنية، وبتغيير وجه واجتها عبر تقديم وجوه شابة ومعتدلة إلى الصف الأول وتأخير من يتشدد في المحافظة، وانتهى بها الأمر إلى إعلان فصلها بين السياسي والدعوي خلال مؤتمرها الأخير. المشكلة الوحيدة التي تؤرق الحركة أن هناك من يتهمها بفعل ما لا تقول بمعنى أنها تدعي الحداثة والمدنية دون أن تسلك طريقهما. والظاهر أنها وصلت مفترق هذا الطريق فإما أما تثبت للجميع أنها حزب سياسي مدني وإما أن تثبت صحة ما يدعيه خصومها. مهددة في شعبيتها لو صوتت الحركة ضد المبادرة فإنها ستكذّب ما كانت تدعيه ما يقدمها داخليا وخارجيا في صورة الحركة المخادعة والكاذبة ويجعل جميع قراراتها السابقة واللاحقة محل شك وريبة. والأخطر أن هناك قوى ضغط إقليمية وعالمية لا تقبل بالحركة في الحكم إلا استنادا إلى ما تدعيه من مدنية وحداثة وستغير موقفها منها بمجرد أن تثبت العكس بنفسها. أما الأكثر خطورة فيتمثل في موقف فرنسا الذي عبر عنه رئيسها ماكرون قبل أيام والذي جعل بلاده عدوا لمن يعادي مبادرة قايد السبسي. في مثل هذه الضغوط والإكراهات يمكن للحركة أن يقبض على الجمر فتصادق على مشروع القانون وتمرره اتقاء لشرور الرفض ولكنها تورطت سلفا إزاء أنصارها فهناك شق راديكالي لا يقبل بفكرة التدخل في أحكام الله ومستعد في سبيل ذلك إلى التضحية بكل ما هو دنيوي حتى إذا تعلق الأمر بحركته التي يساندها ويضحي من أجلها. الإمتحان صعب ولا يمكن الهروب منه كما حدث في التصويت لهيئة بن سدرين بالتمديد أو رفض التمديد على أنه لن يكون الأخير بل إنه ستفتح الباب على امتحانات أخرى أكثر صعوبة أهمها كيفية التعامل مع تداعيات تصويتها لمبادرة المساواة بالرفض أو المصادقة. قالوا عن مبادرة الباجي «حركة النهضة ستعارض أي قانون مخالف للقرآن والدستور». (رئيس مجلس شورى النهضة عبد الكريم الهاروني من تصريح إعلامي إثر بيان المجلس الصادر يوم 26 أوت الماضي). «مشروع قانون المساواة في الميراث الذي سيعرضه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي على البرلمان لا يملك أية حظوظ للمصادقة عليه في صيغته المقترحة...». (عضو المكتب السياسي لحركة النهضة محمد القوماني من تصريح ل«القدس العربي» نشرته يوم 23 أوت الماضي) «أجدد دعوة كل الأطراف إلى معالجة الاختلافات حول هذا الموضوع (مبادرة المساواة) في إطار الحوار والبحث عن الحلول المعقولة سياسيا والمقبولة دستوريا في كنف الاحترام الكامل للمؤسسات…» (رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي مما جاء في رسالته التي نشرها يوم 15 أوت الماضي بمناسبة الذكرى الخامسة للتوافق بينه وبين قايد السبسي). «المقترح (المبادرة) يعطي الاختيار بين اقتسام الميراث بالتساوي أو تطبيق القانون الإسلامي بخصوص هذه المسألة... هذا الأمر لا يتعارض مع الهوية التونسية››. شيخة مدينة تونس النهضوية الانتماء سعاد عبد الرحيم، من حوار نشرته مجلة "جون أفريك" ). «رفض حركة النهضة لهذا المقترح (مبادرة المساواة) هو بمثابة الخيانة لحقوق التونسيات، كما انه تفويت في فرصة تاريخية لإعادة إثبات نفسه كحزب إسلامي يحترم حقوق المرأة… حان الوقت لتعلو أصوات التقدميين في النهضة وأن يطالبوا بوضع حد لهذه القرارات الرجعية التي لا تنتصر لحقوق المرأة...». (مديرة مكتب تونس في هيومن رايتس ووتش آمنة القلالي).