أشرف على مجلس الوزراء، واستقبل ولي العهد السعودي، وكلّف محاميا بمتابعة ملف دعوة سليم الرياحي في خصوص الانقلاب المزعوم على رئيس الجمهورية، وترأس مجلس الأمن القومي حول ما يُسمى بالتنظيم السرّي للنهضة... الرئيس قائد السبسي كثّف أنشطته وتحركاته بشكل معلن وعلى نحو محسوس في الأيام الأخيرة. لماذا هذه الزيادة في النشاط؟ وهل هي طبيعية أم مقصودة؟ وإن كانت مقصودة فما هي معانيها وأهدافها؟ طيلة الأربع سنوات التي قضّاها إلى حدّ اليوم على كرسي قرطاج نجح الرئيس قائد السبسي في القيام بمهمته ببراعة كبيرة بفضل حرصه الواضح على تحقيق التوازن الذي يمنع من أن يتغلّب الجانب السياسي في شخصيته على الجانب القانوني، والعكس صحيح. وبذلك استطاع طيلة هذه المدة أن يظهر بمظهر رجل الدولة المتشبث بالمصلحة العليا للوطن النائي بنفسه عن التجاذبات والمناكفات السياسية.وهو ما مكّنه، لا سيما في السنوات الأولى من عهدته، أن يلعب دور السلطة المعنوية المجمّعة ورمز الوحدة الوطنية والملاذ الأخير للخروج من الأزمات الكبرى. ولعلّ ما ساعده على لعب دوره هذا هو تعلّق التونسيين بالنّظام الرئاسي الذي عاشُوا في ظلّه ما يزيد على الخمسة عقود فبقوا يرون في رئيس الجمهورية المسؤول الأوّل والأخير عن وضع البلاد والضامن لسير العمل العادي للسلطات العامة. والحقيقة أن الرئيس قائد السبسي قدّم الكثير في سبيل نجاح عملية الانتقال الديمقراطي وفي المُصالحة السياسية وساهم في استعادة البلاد لأمنها واستقرارها. سياسة انتقامية؟ الأمرُ تغيّر حين فشل الباجي قائد السبسي في تنحية رئيس الحكومة يوسف الشاهد وما رافق ذلك من إنهاء لتوافقه مع النهضة. ولقد كانت المصادقة على التحوير القطرة التي أفاضت كأسه ودفعته إلى إعلان الحرب على حزب النهضة ورئيس الحكومة يوسف الشاهد مستعملا في ذلك سلاحي الدستور والقانون. فشله في إسقاط الشاهد حوّل الباجي قائد السبسي إلى «حيوان جريح» يغمره إحساس عميق بخيبة الأمل والإحباط لاسيما أن الدائرة المقربة حوله لا تنفكّ تذكّره «بجحود» من قرّبه إليه وكان وراء وصوله إلى كرسي القصبة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يميّز شخصية الباجي قائد السبسي من كبرياء واعتداد بالنفس، كما يصفه جلّ العارفين به، أدركنا رغبة الانتقام التي تحرّكه والتي ظهرت بوادرها بجلاء في الندوة الصحفية التي عقدها أياما قليلة قبل عرض التحوير الحكومي على نواب الشعب والتي تفنّن خلالها في إلقاء الشكوك حول قانونيتها ونزاهة رئيس الحكومة في طريقة اقتراحها. وإثر التحوير كثّف الرئيس قائد السبسي حركاته ومبادرته الرّامية إلى إضعاف رئيس الحكومة ففضّل التفرّج بصمت على الإضراب العام للمواطنين وكأنّ الأمر لا يهمّ أمن ولا مستقبل البلاد التي يتحمّل مسؤوليتها الأولى. وترأس مجلس الوزراء كبادرة فريدة منذ انتخابه، وذلك في إشارة تحدّ واضحة تجاه يوسف الشاهد. لكن الخطوة الأهم تبقى تبنّيه لقضية الإنقلاب المزعوم. واللافت للنظر أن الرئيس قائد السبسي في كل ما يقوم به من تلميحات وإيماءات ومبادرات ضدّ يوسف الشاهد، تبقى، رغم دلالتها العقابية الواضحة، في إطار القانون والدستور ولا تخرج عنها. وفي هذا تأكيد على أن للرجل تخطيطا يتجاوز مجرّد معاقبة يوسف الشاهد أو الانتقام منه، وإنما يرمي إلى هدف أبعد وأهمّ لا نراه غير الإعداد للترشّح إلى عهدة رئاسية ثانية. الباجي مرشح للرئاسة مرة أخرى أكثر من مؤشر يدلّ على أن الباجي قائد السبسي عاقد العزم على أنه يسعى إلى إعادة انتخابه، وأنه، كما في الانتخابات الماضية سوف يقدّم نفسه المرشح الأقدر على الوقوف في وجه النهضة، ويظهر بمظهر محامي التقدمية والحداثة. وفي هذا السياق يرى جلّ الملاحظين أن استعجال تمرير قانون المساواة في الارث يتنزل ضمن الخطة التي رسمها الباجي قائد السبسي لإرباك النهضة والفوز بالنتيجة بالتصويت النسائي. وإثر انتخابه سنة 2014 صرح قائد السبسي أن نساء تونس هنّ من انتخبنه، مضيفا أنه على يقين أن الناخب الوحيد من النهضة الذي أعطاه صوته هو راشد الغنوشي. راشد الغنوشي يمثل اليوم المنافس المحتمل والأقوى والأكثر جدية على الرئاسة. فهل لهذا السّبب أعلن الباجي قائد السبسي حربه على من بنى معه توافقا حكم البلاد أكثر من أربع سنوات؟ كثير من المتابعين للشأن الوطني يذهبون هذا المذهب مستدلين في ذلك على ما يبديه رئيس الجمهورية من إسراع في إطلاق الهجومات على حليف الأمس، قضائيا بترؤسه لاجتماع مجلس أمن قومي مخصّص لما يسمى بالتنظيم السرّي للنهضة، وتشريعيا بالتعجيل باقتراح مشروع المساواة في الارث على مجلس النواب، وديبلوماسيا باستقبال شخصيات معروفة بمواقفها المناهضة للنهضة. وفي الحقيقة فإن الباجي بدهائه السياسي المعروف يريد أن «يضرب عصافير كثيرة بحجر واحد»: إضعاف الشاهد، وخنق مشروع حزبه في المهد، وإرباك النهضة، وتقويض مصداقية مرشحها المحتمل للرئاسة ليبقى في النهاية الخيار الأفضل. هل سينجح الباجي قائد السبسي هذه المرّة أيضا باستعمال أسلحة الأمس، وخصوصا سلاح المرأة وسلاح مناهضة النهضة؟ الأمر لن يكون سهلا، كما يرى ذلك العديد من الملاحظين. لأكثر من سبب: أولا: لأن مشروع المساواة، على أهميته، يبدو موجّها بوضوح نحو استعمال سياسي، وهو كذلك، لا يمثل أولوية في عيون الكثيرين من المواطنين. ثانيا: لأن مناهضة النهضة تبقى غير ذات مصداقية إذا اعتبرنا توافق الأربع سنوات التي سبقت. ثالثا: وهذا هو الأهم، لأن الباجي قائد السبسي لم يعد وراءه ذلك الحزب الجماهيري القوي الذي جمّع التونسيين وراء المرشح قائد السبسي. اليوم أشياء كثيرة تغيرت منها أن الوقت لم يعد يلعب في صالح الرئيس الباجي قائد السبسي.