حراك «السترات الصفراء» كرة ثلج ولدت في فرنسا وبدأت تكبر وتتدحرج باتجاه ساحات أوروبية أخرى موحية وكأن القارة العجوز مقبلة على «ربيع أوروبي» مع بدايات هذا الشتاء البارد. فأسباب الغضب واحدة. ترفيع متواصل في أسعار المحروقات بحكم ارتفاع أسعار النفط في الأسواق الدولية. وترفيع في الأداءات لمجابهة الضغوطات الكبرى على ميزانيات كل الدول. والضحية في كل الحالات واحد وهو المواطن وقدرته الشرائية التي ظلت تتراجع وتتراجع بشكل لم يعد معه قادرا على تحصيل الأساسي من متطلبات العيش الكريم. هذا التوصيف يكاد يوحّد كل دول العالم مع بعض الاستثناءات في دول تقدر فيها أجور العمال والموظفين على مجابهة ضغوط الزيادات في الأسعار. وهو توصيف رسم مشهدا كئيبا متشائما يطبعه التشنج وهي مشاعر تدفع المواطن إلى التمرّد وإلى محاولة إسماع صوته بطرق مبتكرة ما دام الساسة والأحزاب قد عجزوا عن تبليغ شكوى المسحوقين وعن بلورة سياسات واقعية تخرج بالمواطن وبقدرته الشرائية من دائرة الأرقام والمعادلات إلى معادلة توائم بين الأجور والأسعار وتحفظ للمواطن سبل وأسس العيش الكريم. وبالفعل، فقد ولدت حركة السترات الصفراء في فرنسا كحركة تلقائية للتعبير عن ضيق المواطن العادي من الارتفاعات المتكررة لأسعار المحروقات ومن الانهيار المتواصل للقدرة الشرائية. وهي حركة اعتمدت في البداية الحراك السلمي واتجهت إلى إيقاف حركة المرور بالحواجز البشرية والمادية في محاولة لجلب أنظار واهتمام السلطات ودفعها دفعا للإصغاء إلى صرخات وآلام المحرومين.. لكن هذا الحراك وأمام تعنّت السلطات الفرنسية بدأ يأخذ منعرجات أخرى ويدخل في دائرة العنف والمواجهة مع قوات الأمن.. وقد كانت الأحداث التي شهدتها العاصمة الفرنسية يوم السبت الماضي بمثابة إشارة حمراء وجرس انذار أمام الحكومة الفرنسية لدفعها إلى تحرك سريع لاحتواء كرة الثلج قبل أن تكبر وتأخذ أحجاما تجعل التصدي لها ومنع تدحرجها إلى مدن فرنسية وأوروبية أمرا بالغ الصعوبة إن لم نقل مستحيلا. والواقع أن رسائل حركة السترات الصفراء لا تتجه صوب السلطة الفرنسية أو صوب أوروبا المرشحة للعدوى وحسب بل ان هذه الرسائل تهم جل الدول وجل الأنظمة.. وبخاصة دول العالم الثالث التي تعدّ معاناة المواطن الفرنسي الثائر مجرّد مزحة أمام ما يعانيه مواطنوها من ظروف مادية صعبة ومن اكتواء بنيران الأسعار ومن انهيار لاقتصادياتها ولعملاتها الوطنية.. وهذه الظروف تخلق بيئة مثالية لمثل هذا الحراك المواطني وتجعل من مجتمعات الدول النامية حواضن جاهزة للاشتعال وإحراق كل شيء بنيران الغضب والفوضى... إن السلطات الحاكمة في دول العالم الثالث وتونس احداها، مطالبة بالتعاطي بإيجابية مع رسائل حراك «السترات الصفراء» الذي تشهده فرنسا... لأن الرسائل لا تهم فرنسا وحدها ولن تتوقف عند حدود لأنها بطبعها عابرة للحدود وللبحار وللقارات بفعل الطفرة الاعلامية. والعاقل من توقع الحريق وعمل على تفادي اشتعاله.