شتاؤنا بارد مناخيا، ساخن سياسيا واجتماعيا… ما تعودنا عليه سابقا قد يتكرّر هذه المرة بشدة أكبر والدليل في ما تظهره أيام الشتاء الأولى من احتقان… تونس حاليا على أبواب الانفجار ولكن هل انغلقت أبواب الانفراج كلها؟ تونس (الشروق) إضراب عام في الوظيفة العمومية تمهيدا لإضراب آخر أشمل وأوسع، حركات إحمائية لدى وزارة التربية ونقابة التعليم الثانوي للمرور من لعبة لي الأذرع إلى دق الأعناق، تهم متبادلة بين رئاسة الحكومة وخصومها السياسيين، جدال خطير بين حركة النهضة والجبهة الشعبية قد يتحوّل من الميدان السياسي إلى الميدان القضائي، غليان اجتماعي خطير كمادة شديدة الالتهاب في فضاء كثير الاحتكاك… كل المؤشرات تدل على أن هذا الشتاء سيكون أسخن سياسيا واجتماعيا من شتاء السنة الماضية وما سبقه وما تقدمه وحتى من الشتاءات الملتهبة كتلك التي أطاحت بنظام بن علي سنة 2011 وأشعلت البلاد سنة 1984 وخلفت خميسا أسود سنة 1978… الشتاء يرتبط في التقويم العادي بتوديع سنة واستقبال أخرى، لكنه يعني سياسيا واجتماعيا توديع ميزانية واستقبال أخرى، ودفن عام سيء والاستعداد لعام أفضل لكننا لا نرى بوادر للأفضلية المستقبلية. رجات وارتدادات قبل الشتاء الحالي ودعنا خريفا متقلبا أحدث رجة سياسية بإعلان الحزب الحاكم نداء تونس انسحابه من حكومته، ورجة برلمانية بتأسيس كتلة الائتلاف الوطني المقربة من رئيس الحكومة، ورجة اجتماعية نقابية بتنفيذ الإضراب العام في الوظيفة العمومية ورجة على مستوى السلطة التنفيذية بانقطاع الطرق التي كانت تصل بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية. لكل رجة ارتداداتها فحزب النداء الغاضب على حكومته ورئيسها بات يتحدث عن محاولة انقلاب سياسية والطرف القوي في الحكومة (حركة النهضة) أضحت متهمة بتأسيس جهاز سري يراه خصومها (الجبهة الشعبية خاصة) مستندا لحلها قانونيا، وبعض النقابات القطاعية تزايد على اتحاد الشغل في لي ذراع الحكومة، والبرلمان عاجز عن تحيين تركيبات كتله بسبب الانسحابات والالتحاقات شبه اليومية… من التأزم إلى الانفجار المشكلة الأولى في هذا أن كل شيء يسير نحو مزيد التأزم والمشكلة الثانية أن المتضرر لن يكون طرفا دون الآخر بل إن تونس كلّها مهددة: لن تتضرر رئاسة الجمهورية دون رئاسة الجمهورية ولا الثانية دون الأولى من تأزم علاقاتهما بل سيتضرر المشهد السياسي جميعه بدرجة خاصة والبلاد كلّها بصورة أشمل. بالقياس، سيكون الضرر شاملا من الاحتقان السياسي بين الأحزاب ومن التناطح بين الوزارات والنقابات القطاعية ومن التصارع بين رئاسة الحكومة واتحاد الشغل… وستبلغ الأزمة حدّها عندما يهيج الشارع استجابة لمن يبادر بتهييجه. في هذه الحالة تصبح عبارة «التأزم» ومشتقاتها قاصرة عن وصف حالة البلاد ويصبح من الضروري الاستعاضة عنها بعبارات أخرى من قاموس «الانفجار» وما شابهه. انتحار جماعي يمكن اليوم إسقاط الحكومة برلمانيا أو حتى بقوة الشارع فهي لم تبلغ ما كان يتمتمع به نظام بن علي من قوة سياسية وبطش أمني وتماسك حزبي...، ويمكن محاكمة حركة النهضة وحتى حلّها قانونيا فهي لم تبلغ من القوة ما بلغه حزب التجمع المنحل، ويمكن تنفيذ إضراب عام شامل أو إضرابين أو أكثر متى شاء اتحاد الشغل، ويمكن التسليم بسنة بيضاء في التعليم الثانوي وحتى الأساسي والجامعي، ويمكن إشعال الشارع وإغلاق الإدارات والمؤسسات ووقف النشاط الاقتصادي وملازمة البيوت… كل شيء ممكن في هذه البلاد متى توفرت الرغبة في الانتحار الجماعي ولكن أي نتيجة متوقعة من هذه الإمكانية؟ إما أن نموت كلّنا وإما أن ننزل إلى نقطة الصفر أو ما تحت الصفر ثم نعود إلى البناء من جديد بعد إضاعة سنوات من محاولة النهوض ومحاولة السير في طريق الديمقراطية. فهل غابت جميع الحلول الأخرى؟. قدرنا الأخير قدرنا في تونس أن نختلف ونتجادل ونتبادل التهم ويعمل بعضنا على إضعاف بعضنا الآخر ويحاول كسر شوكته والإطاحة به وتقوية نفسه على حسابه… لكن قدرنا الأخير أن نغلب مصلحة الوطن على جميع المصالح. اليوم استوفينا أقدارنا كلّها في الاختلافات والمخاصمات ولم يبق لنا إلا المرحلة الأخيرة التي تحتم على الجميع ضبط النفس حتى لا يغرقوا السفينة التي تحملهم معا… قد تكون التنازلات مؤلمة ولكن هناك واقع يحتم على الحكومة مدّ يديها إلى جميع خصومها ويحتم على خصومها القبول بها في ما تبقى لها من عمر (13 شهرا تقريبا) لأن بقاءها أهون للجميع من استبدالها… ويحتم على اتحاد الشغل ونقاباته النظر بعين الرحمة إلى هذه البلاد ومستقبلها. اليوم تظهر قيمة حكماء تونس المحايدين والمستقلين في الدعوة إلى حوار وطني حقيقي يقرب وجهات النظر وينهي الخلافات بالحسنى ويحدد خطوطا حمراء يمنع تجاوزها وحتى الإقتراب منها تغليبا لمصلحة الوطن وحماية لجميع الفرقاء من الاندثار فأين أولئك الحكماء الذين كانوا يتشدّقون بحب تونس والدفاع عنها؟. عدم النضج السياسي قال الخبير الاقتصادي أشرف العيادي إن «الاقتصاد المحلي (التونسي) دفع باهظا كلفة عدم النضج السياسي وتغليب المصلحة الذاتية لبعض الأطراف على المصلحة العامة». وأوضح العيادي في مداخلة له نشرها موقع قناة العالم يوم 29 سبتمبر الماضي أن تونس في حاجة إلى «إنهاء حالة التشنج السياسي والتجاذبات الحزبية التي تتسبب في تعطيل دواليب الدولة». واعتبر أن «المؤسسات المالية الدولية والجهات المانحة، من ذلك الاتحاد الأوروبي، لا تزال تحول دون انزلاق المالية العمومية في منعرج خطير»، مؤكدا «ضرورة الإسراع في إصلاحات توفر لموازنة الدولة عائدات تقلص من نسبة العجز وتساعد على استعادة الدينار عافيته».