منذ أربعة أسابيع تعيش فرنسا غليانا شعبيا تطور بشكل يدعو الى الاندهاش نتيجة زيادة طفيفة في أسعار المحروقات كان من المزمع تطبيقها مع بداية السنة الجديدة. وقد اتخذت هذه الأحداث منحى تصاعديا تمثلت في أحداث العنف التي رافقتها في مظاهرات عارمة وصلت إلى العاصمة باريس وأحيائها الراقية حول شارع الشونزيلزي الذي يطلق عليه صفة أجمل شارع في العالم. وإذا استثنينا بعض التعليقات الإعلامية التي ترتبط جلها بفشل النظام الرأسمالي المتوحش الذي أنتج ثراء فاحشا لدى القلة وفقرا مدقعا لدى الأغلبية فلم نر تفاعلا مع هذه الأحداث لا من السلط الرسمية ولا من الطبقة السياسية وكأن الأمر لا يهمنا في حين أن ما يجري في فرنسا جدير لا بالمتابعة فحسب باعتبار أن ما لا يقل عن مليون شخص يحملون الجنسية التونسية يعيشون فوق أرضها. ولكن ايضا بالتفاعل معه واتخاذ الموقف منه دون أن يكون ذلك من باب التدخل السافر في الشؤون الداخلية لبلد صديق وشعب نرتبط به بجملة من الوشائج التي نسجها التاريخ والقرب الجغرافي والثقافة المشتركة. لا شك أن الدهشة هي القاسم المشترك بين جميع المتابعين للشأن الفرنسي فهذا البلد اختار منذ سنة ونصف رئيسا شابا واغلبية برلمانية جديدة قدمت أساسا من المجتمع المدني في رغبة جامحة لتغيير طريقة الحكم بعد فشل اليمين واليسار التقليديين في إدارة البلاد على مدى الخمسين سنة الأخيرة. ولكن بسرعة أبان هذا النظام الجديد عدم القدرة على مجابهة حاجيات الأغلبية التي كانت تدعى بالصامتة والتي تعيش ظروفا صعبة في فرنسا الأعماق في المدن الصغيرة والأرياف الممتدة والتي بدأت تشهد تصحرا مدنيا نتيجة غياب جل المصالح العمومية وما زاد الطينة بلة هو الحرص على إصلاح الأخطاء التي أدت إلى الانحباس الحراري وأثرت على المناخ والطبيعة وهو ما لخصه أحد المحتجين بالقول إن الحكومة تفكر في الجيل القادم بعد ثلاثين سنة في حين أن جل الفرنسيين يفكرون في نهاية الشهر. ولعل نفاد صبر الأغلبية التي تعيش منذ عقود ظروفا صعبة إضافة إلى القضاء الممنهج منذ صعود الرئيس ماكرون إلى سدة الحكم على كل الهياكل الوسيطة بين السلطة والشعب وهي الأحزاب السياسية والنقابات العمالية فضلا على تآكل مصداقية الطبقة السياسية في مجملها باعتبارها تبحث عن قضاء مصالحها لا الانكباب على مصالح الشعب هو الذي أدى إلى هذا الاحتقان الاجتماعي والذي أججه دخول ما يسمى بالمكسرين les casseurs الذين يدخلون على الخط للتحطيم والتهشيم والسرقة والحرق والنهب إضافة إلى بروز حركات أقصى اليمين وأقصى اليسار في تحالف غير طبيعي ضد السلطة الحاكمة. ولا شك أن النظام الرأسمالي وخاصة في شكله المتوحش قد بلغ مداه. إذ أنه أنتج ثراء فاحشا للقلة القليلة وفقرا أحيانا مدقعا للأغلبية الغالبة. إذ تقول الإحصائيات في العالم أن واحدا في المائة من البشر يملك ثمانين في المائة من الثروات بما يعني ان 99 في المائة يقتسمون بطريقة غير عادلة طبعا العشرين بالمائة الباقية. وقد أضحى من الضروري بل من المتأكد تغيير هذا النظام وجعله أكثر عدلا ولكن ذلك ليس بالأمر الهين. ولكن الاصعب والذي بدأ يبرز على الساحة هو الرغبة في تغيير النمط الديمقراطي القائم على تمثيل الشعب عن طريق نوابه المنتخبين انتخابا حرا عاما وشفافا كما يقال بنمط جديد يقوم على الديمقراطية المباشرة .وهي طريقة لم تحصل إلا في زمن الإغريق القدامى وتجري بصورة أخرى في بلد مثل سويسرا عن طريق الاستفتاءات الشعبية في كل المسائل تقريبا. وهذا يتطلب قدرا كبيرا من التقدم والقبول بالاختلاف. وهو ما ليس متاحا في كل البلدان. ولسائل أن يتساءل هل أن ما يجري في فرنسا هو بداية ربيع أوروبي، خاصة أن الحركة امتدت إلى بلدان أوروبية مجاورة. كما كانت الثورة التونسية منذ ثماني سنوات بداية الربيع العربي فالظاهر أن قواسم عديدة مشتركة بين التجربتين ففي البلد الاول كما في البلد الثاني الحراك كان عفويا بدون قيادة وبدون زعامة وفي سبيل مطالب بالأساس اجتماعية كان السبب المباشر فيها حدثا عابرا مثل النقطة التي أفاضت الكأس وما كان لهذا الحدث أن يأخذ أبعادا كبرى لو لا أنه وجد الارض الخصبة لذلك وقد بلغ العنف في البلدين حدا كبيرا في فترة زمنية قصيرة مع الفارق بان المواجهة على النمط الديمقراطي حيث التظاهر متاح متى كان سلميا لم تحدث ضحايا بخلاف الطريقة الاستبدادية التي تسببت في شهداء وجرحى بأعداد كبيرة. ولئن أدت الثورة التونسية إلى فرار رأس النظام وإحداث تغييرات جوهرية في نمط الحكم فلا نعتقد أن ذلك سيكون متاحا في فرنسا رغم الدعوات إلى استقالة الرئيس ماكرون وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها عبر حل الجمعية الوطنية. إن فرنسا تعيش أحداثا بالغة الخطورة قد تمثل انعطافا في الحياة السياسية والعامة في هذا البلد وإن العدوى قد تصل إلى بلادنا حيث أعلنت مجموعة من الشباب عن قيام حركة السترات الحمراء للقيام باحتجاجات سلمية في مواصلة لنضال الشعب التونسي من أجل الكرامة والعيش الكريم حسبما جاء في البلاغ الذي أصدرته هذه المجموعة. وهذا أمر يجب أخذه بمنتهى الجدية فكل الظروف مواتية لانفجار اجتماعي لا تزيده الخلافات السياسية المستفحلة إلا سوءا.