يقول الفرنسيون أنه منذ 1930 لم يسبق أن عرف رئيسا فرنسيا اهتماما بأفكاره ورؤاه مثلما يحصل اليوم مع الرئيس الحالي إمانوال ماكرون في برنامجه الانتخابي الذي يبشر بفرنسا الغد مختلفة عن فرنسا اليوم. كما لم سبق منذ ذلك التاريخ أن خضعت شخصية سياسية إلى امتحان ايديولوجي كما يحصل اليوم مع هذا الرئيس الذي حرك الراكد والساكن في الحياة الفكرية والمشهد الثقافي والسياسي بأفكاره التي اعتبرت صادمة ومختلفة عما عاشت عليه فرنسا على مدار سنين طويلة . وهذا الذي يقوم به اليوم إمانوال ماكرون من محاولة لفرض أفكاره وإقناع الشعب الفرنسي بخريطة طريقه الجديدة لفرنسا المستقبل قد دفع الكثير من الأنتلنجسيا الفرنسية التي بقيت لوقت طويل خارج السياسية ومتعالية عن المساهمة في الحراك السياسي وما يقع قبل وبعد الانتخابات من نقاشات وسجالات بخصوص برامج الأحزاب الانتخابية وأجبرها أن تخرج عن صمتها وأن تدلي بدلوها فيما يطرحه الرئيس من أفكار يقول عنها أنها سوف تغير من وجه فرنسا في المستقبل. من أهم الأفكار التي نجدها عند الفلاسفة والطبقة المثقفة الفرنسية بخصوص ما يقدمه الرئيس الفرنسي الجديد أنهم يعتبرون ماكرون رجل منظومة العولمة بامتياز وصنيعة النظام الليبرالي والمنظومة الرأسمالية التي قدمت اليوم هذا الرجل في محاولة لتجديد نفسها من الداخل واستئناف مسيرتها بعد أن تهرأت صورتها وانتقدت كثيرا وقد زاد في تلويث حالها مجيء دونالد ترامب وخطابه الشعبوي الرافض للعولمة وللنظام الرأسمالي وبرنامجه لإصلاح النظام العالمي والتخلي عن الارتباطات الدولية والأحلاف الاقتصادية والعودة إلى فكرة الأمة القطرية والقومية والذاتية وفق شعار أمريكا أولا وشعر فرنسا للفرنسيين بالنسبة لماري لوبان التي تشاركه النظرة والتصور للعالم. ترى الأنتلجنسا الفرنسية أن رئيس فرنسا الحالي هو رجل أنتجته فلسفة وفكر الدولة والبنوك التي تدعي انتزاع الحقيقة واحتكار الفهم والوعي لإخراج البلاد من وضع البطالة المستفحل فيها واستعادة أوروبا لإشعاعها من جديد فهو في نظرهم أول رئيس ليبرالي حقيقي لفرنسا التي كانت دوما مناهضة للفكر الليبرالي العفوي .. لقد كان واضحا من أول يوم رشح فيه نفسه لمنصب الرئاسة وصارح الفرنسيين بأفكاره من دون أن يتخفى وراء الشعارات الانتخابية الكاذبة والاكراهات السياسية المعروفة فقد كان واضحا في عزمه على تغيير قانون العمل وإصلاح سوق الشغل وتليين قواعده بإعطاء المؤسسة الاقتصادية أكثر مرونة وحرية في ضبط السياسة الشغلية بعيدا عن تدخل النقابات وفي جعل العمل يضبط وفق عقد حر بين العامل ومشغله .. كان واضحا كذلك في انحيازه المطلق لأوروبا ومناصرته للعولمة الاقتصادية فهو لا يرى فرنسا قوية خارج هاذين الفضائيين لذلك يبشر بفرنسا أكثر قوة في المستقبل في الفضاء الأوروبي فماكرون يدافع بقوة على حرية العمل وعلى تخفيف العبء على المؤسسة الاقتصادية وهو يرى أنه من دون تنقيح لقانون العمل وسن تشريعات جديدة أكثر تحررية لا يمكن للمؤسسة الفرنسية أن تتقدم وتنهض وتخلق الثروة التي من ورائها يتم خلق مواطن شغل إضافية فهو يعتبر أن التقليص من حدة البطالة متوقف على التخلي على فلسفة العمل القديمة وجعل العمل متحركا ومتنقلا ما يسمح للعامل من الانتقال من منظومة عمل إلى أخرى بكل سلاسة ويسر بعيدا عن تدخل النقابات العمالية وهذه النظرة التي يبشر بها ماكرون يرى فيها فلاسفة فرنسا أنها نظرة متجددة لليبرالية المتوحشة التي تكرس ثقافة الفقر والتهميش الاجتماعي فشعار « دعه يعمل « الذي يرفعه اليوم ماكرون وتحمسه لإنقاذ المؤسسات التي تمر بأزمات مالية وتعرف منافسة كبيرة من المؤسسات الأوروبية هي في آخر المطاف تهدد كل الفكر الفرنسي الذي ينتصر لمبدأ المساواة وثقافة العيش للجميع ويسمع بخلق طبقة اجتماعية جديدة مهيمنة مرتبطة بالرأسمالية العالمية وتعيش من مثالية جبائية على حد تعبيره ترى أن كل شيء متحرك يجب تحريره وأن كل شيء قار وثابت يجب إخضاعه للضريبة . ترى الطبقة المثقفة الفرنسية أن الرئيس ماكرون رجل يريد أن يغير العالم وفق قواعد الاطفال الصغار الذي يستسهلون كل شيء وأنه بصدد هدم كل شيء تم بناؤه بعرق أجيال كثيرة من الفرنسيين ليصلوا اليوم إلى حزمة من الحقوق هي مفخرة فرنسا .. إنه يريد هدم كل شيء يريد التخلي عن الضمان الاجتماعي والعمل القار والأجر المضبوط الذي يكفل الكرامة للعامل والتخلي عن فكرة سيادة الشعب وفكرة الدولة في خدمة المواطن إنه يقول بكل وضوح لقد انتهى زمن التوظيف القار والأجر المتفق عليه مع النقابات والضمان الاجتماعي القائم على مساهمة العامل فيه من أجل أن يجد بعد سنوات من العمل أجرة تقاعد وتغطية صحية تليق به إنه يدافع عن فرنسا خارج فرنسا إنه يدافع عن فكرة الثقافة في فرنسا بدل فكرة الثقافة الفرنسية . هذه بعض الأفكار التي تنتقد بها الأنتلجسيا الفرنسية الرئيس ماكرون وهذه بعض المواقف التي تتخذها الطبقة المثقفة في بلد الأنوار مما يطرحه هذا الرئيس الفرنسي في برنامجه للحكم وهي أفكار يقول عنها الكثيرون إنها على النقيض من أفكار هذا الرئيس وهي أفكار تحاول أن تصد ولو قليلا من التيار الجارف الذي يريد ماكرون جر فرنسا إليه حتى وصفه أحدهم بأنه يمثل بأفكاره الثورية البروتستنتية الجديدة المعلمنة القائمة على فكرة الرجل العصامي الذي يقرر كل شيء بمفرده ويحتكر الكلام لوحده ويسيطر على الاتصالات دون غيره فهو قد تحول أو يريد ان يكون ملكا في جمهورية وإمبراطورا في دولة الحريات. فهل سيصمد هذا الرئيس الشاب الذي يتحدى اليوم الجميع الأحزاب اليسارية وفكرها الماركسي ونظرتها الاشتراكية والأحزاب اليمينية المحافظة منها والمتطرفة وخاصة أقصى اليمين الذي سخر من نظرتهم للأشياء والفلاسفة والطبقة المثقفة التي يرى فيها جماعة حالمة وواهمة ترفض التجديد وتميل إلى المحافظة في عالم متغير ومتحول ومتقلب وفي ضل عالم يشهد منافسة شرسة من أجل البقاء في السباق وضمن الكوكبة.